مدارس نقدية

جمالية التلقي
 الهاشم أسمهر

أعالي مدينة تيزيوزو

يجب التوكيد بدءا أن جمالية التلقي لا تقدم نفسها -ولا ينبغي لها ذلك- باعتبارها قد اكتشفت -على غرار ''حقل لا مالك له'' في مجال الدراسات الأدبية وفي الظاهرة الأدبية بوجه عام؛ فالتلقي باعتباره ظاهرة تواصلية في المقام الأول، كان موضوع تأمل- وإن اختلفت درجته وطبيعته- منذ أرسطو وحتى تأسيس صرح جمالية التلقي في ألمانيا الإتحادية أواخر الستينات من خلال نظريات سيميوطيقا التلقي ونقد استجابة القارئ وسوسيولوجيا القراءة.  إن جمالية التلقي يمكن أن تعتبر نفسها -وهي محقة في ذلك- وأن نعتبرها كذلك إبدالا جديدا وصيغة جادة في طروحاتها مما يجوز معه القول إنها تشكل ''تحديا'' للدراسات الأدبية وصيغة جادة في طروحاتها، مما يجوز معه القول إنها تشكل ''تحديا'' للدراسات الأدبية ومناهج البحث المعاصرة بإعادتها النظر في الكثير من المسلمات التقليدية عن الأدب والقراءة. ومن ميزات وحسنات هذه النظرية أنها تعيد النظر كذلك في خطابها باستمرار، مما يجعلها منفتحة على إمكانيات التجدد وذلك باستفادتها من جبهات النقاش التي فتحها المنظرون والنقاد الذين تناولوها بالتمحيص والمساءلة. ونبدأ بممثل النقد السوسيولوجي بيير زيما، الذي يعتقد أن ياوس >بإقصائه سيرورة الإنتاج (أصل البنية النصية) من مجال بحثه، فإنه لم يوفق في تفسير التلقي والقراءة<. (1) والواقع أن هذا التعقيب قد سبق أن طرحه نقاد ألمانيا الديمقراطية سابقا في شخص مانفريد نومان، الذي نرأى في أعمال ياوس زحزحة تعسفية لمركز الإهتمام أكثر مما هي تقدم نظري. وهكذا فإن الاعتراض الرئيس هنا هو كيف يمكن أن نقبل عملية التلقي باعتبارها فعلا معزولا عن سياقه؟ أي كيف يمكن أن يفترق التلقي عن ثنائية و''قانون'' الإنتاج والاستهلاك؟  ويستمر بيير زيما في طموحه ليصل إلى المستوى الإجرائي المفهومي لطروحات ياوس فيقول >إن الموضوع الجمالي لم يكن أبدا مستقلا عن لقوانين والقيم الملازمة للعلامة المادية. إن البنيات النصية التي تتفاعل معها عملية] القراءة (الفردية والجماعية) بدورها ليست منفصلة عن سياق الإنتاج، ومن المستحيل تفسيرها دون الأخذ بعين الإعتبار الوضعية السوسيولسانية التي تولدت عنها< .(2) على أن ياوس يعقب بدوره قائلا : >إنه حتى وإن اعتبرنا الإنتاج عاملا مهيمنا في السيرورة الإجتماعية، فإننا لن نتمكن من معرفة الدور الذي يلعبه العمل الفني في هذه السيرورة إلا بدراسة عملية] تلقيه. هذه المعرفة إذن ستطال المواضيع الحقيقية والاتجاهات الاجتماعية للتطور وليس مجرد (...) تجريدات لا طائل من ورائها <. (3) لكن زيما أصر على إضاءة مناطق تبدو معتمة -ربما لغير مبرر- في نظرية ياوس. وهكذا فهو يقر أنه >إذا كان الجمهور الأدبي] حقا متغايرا، وإذا كانت السنن الجمالية محددة بالمصالح الإجتماعية فلا نرى لماذا أن المعايير الجمالية للكاتب -المعايير الجمالية التي ينقاد لها الإنتاج- تنفلت من هذا التحديد لأن الكاتب لا ينتج إلا بوصفه قارئا للنصوص الأدبية وغير الأدبية، وإنتاجه سيرورة خارج نصية أي] سوسيولسانية<. (4) ويعيد بيير زيما النظر في مفهوم أفق الإنتظار الياوسي، فيتوصل بعد مناقشته إلى أنه يضم أربعة مكونات أساس هي : أولا معرفة أسلوب كاتب معين، وثانيا تجربة القارئ ضمن مجال جنس أدبي محدد. ثالثا المعرفة الأدبية بوجه عام، وأخيرا الحياة الخارج أدبية، أي الفلسفة النفسية والإجتماعية للقارئ. (5) ولعل في هذا بيان واضح عن منهج زيما السوسيولوجي. ومن جهته يرى كين.م. نيوتن أن إحدى المشكلات الواضحة التي تعترض نظرية ياوس تتعلق بمدى إمكانية تطبيق النظرية على جميع المراحل الأدبية. فثمة أعمال بارزة في التاريخ الأدبي- إينادة فرجيل على سبيل المثال ستبدو وكأنها تسهم في دعم الإيديولوجية الرسمية<. (6) ولعل سبب هذه المشكلة هو إصرار ياوس على اعتبار الأعمال العظيمة تنحو إلى خرق أفق انتظار القراء وبالتالي فهي تغرق المعايير الجمالية لعصرها. والواقع أن ثمة أعمالا كثيرة عظيمة (سنضيف أيضا إليادة هوميروس) انقادت لمعايير عصرها الأدبية. ويبدو أن مفهوم أفق الإنتظار يستفز ويغري معا بالمساءلة: يظهر أن ياوس في مفهومه هذا يراهن علي القارئ ''الخبير'' بالدرجة الأولى (وهنا نخالف ما لاحظه جان تاروبنسكي بهذا الصدد)، وإلا فماذا يعني الحديث عن قارئ يستطيع، بمجرد تواصله الأولي مع النص، أن يستحضر جنسه الأدبي وتجاربه الأدبية السابقة؟ إن ياوس يسند لهذا القارئ دورا هاما قد ينوء بثقله باقي القراء ''الهواة''. ثم إن أفق الانتظار لا يزال يحتمل إعادة النظر في مكوناته وتوسيع مجالها ليشمل السياق الخارجي والداخلي للنص : الأول يمكن أن يضم ظروف التواصل وشكله وقنواته لديوان شعر، نص مسرحي مكتوب أو معروض، لقاء مباشر مع الجمهور، وسائل الإتصال الجماهيري...) إضافة إلى الأشخاص (كاتب، صحفي، ناقد، سياسي...) والمؤسسات الثقافية والسياسية (دور النشر، الجمعيات...). أكيد أن هذه العناصر المتغايرة وظيفيا تخلق آفاق انتظار متغايرة؛ فما يخلقه الإعلان عن حفل توقيع ديوان في فضاء ثقافي معين (مركز ثقافي مثلا) ليس عينه الأفق الذي يخلقه ملصق يعلن عن عرض مسرحي مسائي. كما أن كتابا أدبيا أصدرته دار نشر معينة لا يخلق الانتظار نفسه لو أصدرته دار نشر أخرى، لأن كل دار نشر تخلق في الغالب أفق انتظارها الخاص لدى الجمهور (لنتذكر مثلا دار مينوي الفرنسية وهي تصدر'' الروايات الجديدة''). وعلى كل حال قد تبدو هذه العناصر أكثر خارجية''، لكنها مع ذلك تفعل فعلها في عملية تلقي النصوص الأدبية والفنية بوجه عام.أما عن السياق الداخلي لأفق الانتظار والذي يركز عليه ياوس أكثر، فيمكن هو الأخر تمييز مستويات كثيرة ضمنه تبتدئ بالعنوان وتمر عبر تيمة النص المهيمنة، لتنتهي عند أصغر العناصر متمثلة -والحالة هذه- في الكلمات والعبارات ذاتها ما دام أنها تخلق توقعات تعدل أو تغير أو تقصى أو يحتفظ بها.
والآن : هل يحق لنا أن نتحدث عن أفق انتظار النص النقدي؟
ربما ليس معتادا بالمرة أن يتم الحديث عن أفق انتظار هذا النص، ومع ذلك يمكن الحديث عن مشروع بناء عناصر أفق هذا النص. وهكذا يمكن أن ندرج في مكوناته : الخلفيات النظرية والمنهجية للناقد واتجاهه ومذهبه ومدرسته النقدية، والمؤسسة الثقافية التي ينتمي إليها. ثم سياق العملية النقدية (سجال، تعقيب، تحليل ونقد أدبي ) ثم أخيرا رهان العملية النقدية (تعزيز مكانة عمل أدبي أو حتى نقدي آخر، إعادة النظر في معيار أدبي/نقدي معين، التلويح بمشروع نظرية...). من الواضح أن هذه العناصر المقترحة لا تعدو أن تكون أولية، وهي لا تقدم نفسها إلا باعتبارها عناصر إجرائية لمقاربة أشكال تلقي النصوص النقدية، وهي عناصر يمكن أن تسري عليها التصورات الياوسية من اندماج وتعديل وتغيير. ومن المفيد ملاحظة أن أفق انتظار النص النقدي يختلف من حيث طبيعة أفق انتظار النص الأدبي من زاوية ''فعل الانتظار'' ذاته، وما يستتبعه ذلك من ''فعل قراءة''؛ فالنص النقدي وهو يتلقى نصا أدبيا أو نقديا آخر يصدر عن جهاز قراءة يصعب التكهن بأبعاده رهاناته إلا لقارئ ''خبير'' وبالتالي فإن أفق انتظار هذا النص ذاته أفق يعاد النظر فيه باستمرار مع التقدم في القراءة، على الأقل بالنسبة للقارئ ''العادي'' الذي لا تمكنه تجربتهالنقدية من استحضار كل الأبعاد، والخلفيات والرهانات التي يمكن أن توجه نصا نقديا ما وهو يقارب نصا أدبيا أو نصا نقديا آخر. إن الصعوبة التي تواجه المتلقي وهو بإزاء النص النقدي تكمن في أنه يعيش لحظة صراع بين أفقين من الانتظار: أفقه الخاص باعتباره قارئا (مفترضا؟) للنص الأدبي الذي يسائله النص النقدي، والذي يحاول أن يفرض عليه إكراهاته النقدية، على اعتبار أن كل قراءة نقدية هي استحضار لمقصديات تتبلور على شكل جهاز قراءة يحاول من خلاله الناقد أن يستجلي مكامن أدبية النص، على الأقل من منظوره الخاص، ومن منظور مؤسسته الثقافية، ورهاناته النقدية، وربما حتى السياسية. ثم إن هذا القارئ كذلك ينفتح لديه أفق انتظار آخر يهم أساسا هذه المرة خطاب الناقد ذاته، بكل ما يؤشر عليه من العناصر السابقة الذكر، والذي يحدث هو أن القارئ يحاول أن يضع خانات اهتمام يوزع من خلالها تمثلاته لكل من النص الأدبي والنص النقدي. إلا أن مصير هذا الإجراء رهين -مرة أخرى- بنوعية القارئ؛ فقارئ ''مبتدئ'' يفترض جدا أنه يفقد مع استمرار فعل القراءة الحماس في الاحتفاظ بنمط إدراكه للنص الأول. ذلك أنه قد يرى في الناقد وسيطا ذا سلطة، وبالتالي ينساق وراء نمط تلقيه. وعلى النقيض من ذلك يقف القارئ ''الحاذق'' من النص النقدي موقف الباحث عن استراتيجية القراءة، سواء تلك المتعلقة بمنتج الخطاب النقدي الأول، أو تلك التي تخصه وهو يحاول أن يقف ويستخرج استراتيجية النص النقدي موضوع التأمل.
تبقى الأفكار السابقة عن أفق انتظار النص النقدي مجرد تصورات أولية. وتبعا لذلك فهي تبدو أفكارا إجرائية لا تخلو من بساطة فالمقام يستدعي أن نحاول صياغة بعض المبادئ الأولية التي تعين على مقاربة النص النقدي، هذه المقاربة التي لا تكون دائما سهلة المنال .ونعود إلى طروحات ياوس لندلي بملاحظتين لا تخلوان من فائدة : أولاهما أوردها إلرود إبش حينما أقر أننا >نجد تناقضا في مفهوم القارئ، فياوس يتفحص التلقي الذي يمارسه القارئ التاريخي إلى اللخظة التي يقدم فيها، هو نفسه، تأويلا للعمل الأدبي المجدد، عندئذ يتخلى عن الموقف ''الموضوعي'' لصالح خلط الذات والموضوع<(7). والواقع أن هذا الأمر يمكن أن يفسر بالحماس الياوسي لكل الأعمال التي تنحو إلى تخييب آفاق انتظار قرائها. وقد رأينا كيف أن انسياقة وراء هذه الفكرة قد جر عليه انتقادا صاغه كين.م نيوتن حول اعتبار بعض الأعمال التي لا تخرق أفق انتظار قرائها -مع أنها عظيمة لا شك- بمثابة أعمال تساند الإديولوجية السائدة! ومع ذلك تمكن المجادلة بشأن دعوى ''الموضوعية'' التي يشير إليها إبش بخصوص قراءة ياوس لأعمال الماضي؛ فهذا الأخير ما فتئ يؤكد أن عملية بناء آفاق انتظار الأعمال السابقة تنطلق من حاضرنا. إن ياوس -في التحليل الأخير- لا يمكن أن يكون قارئا لهذه الأعمال، وهو الحامل لتصوراته وجهازه القرائي الخاص الذي صاغه على شكل نظريته ذاتها، التي يبدو أنها تحاول كل مرة أن تتواطأ مع النصوص والأعمال الأدبية المجددة.ومن جهته يؤكد فرانك شويرويجن أن نظرية ياوس >تتجاهل ما يأمل النص تحقيقه بقراءته الخاصة، أي ما يمكن تسميته مع ميشال شارل ''بلاغة'' التلقي<. (8) وهو الأمر الذي يتضح أن إيزر يجعله مدار نظريته عن الوقع الذي ينتجه النص الأدبي لحظة ''فعل القراءة''.   >إن النظرية الإيزرية لكونها مشوقة ومنتجة، ولكونها أيضا استعارت الكثير من المفاهيم من آفاق مختلفة، لا تعيش بدون مشاكل<. (9) وبالفعل فإن أطروحات إيزر كانت عرضة للإنتقادات أكثر من زميله ياوس، ربما لإصراره على إعطاء جوهر أنطولوجي مبالع فيه'' للنص. يقول تييري إيجلتون : >تتأسس نظرية التلقي الإيزرية]، في الواقع، على إيديولوجية إنسانية ليبرالية تتلخص في أننا ينبغي أن نكون، أثناء القراءة، مرنين ومتفتحين ومستعدين لوضع قناعاتنا موضع سؤال وأن نسمح لها بالتغير<. (10) ومع أنه من الواضح أن الإيديولوجية الماركسية هي التي تحاول، من خلال هذا النص، أن تحاكم ما قد بدا نزوعا ليبراليا غير مقبول، فإن الملاحظة لا تخلو من دقة : فما قد يلحظه المرء في كلام إيزر أنه يسند إلى النص أثناء التواصل دورا حاسما في توجيه القارئ وهو ما حدا به إلى الاعتقاد بوجود مراقبة في النص الأدبي يمارسها لحظة القراءة، وهو ما دفع به كذلك إلى الإصرار على حتمية فشل التفاعل بين القارئ والنص إذا بالغ الأول في إنهاك الثاني بإسقاطات الخاصة. ويستمر إيجلتون في نقاشه مسجلا أن >نوع القارئ الذي سيؤثر فيه الأدب تأثيرا عميقا هو ذاك المزود سلفا بالاستجابات والقدرات ''الصائبة''، الحاذق في إنجاز بعض التقنيات النقدية والتعرف على بعض التقاليد الأدبية؛ غير أن هذا القارئ بالذات هو الغني عن التأثير، ذلك أن مثل هذا القارئ ''مغير'' منذ البداية، وهو مستعد لمزيد من التغير بسبب هذا الواقع بالذات، ويجب عليك كي تقرأ الأدب ''فعليا'' أن تنجز مهارات معينة، مهارات محددة تحديدا إشكاليا. إلا أن ''الأدب'' لا يستطيع أن يضع هذه المهارات بالذات موضع سؤال لأن وجوده متعلق بوجودها <. (11) إلا أن إيزر بدوره يجادل أن >قارئا ذا التزامات إيديولوجية قوية يحتمل أن يكون قارئا غير كفء لما كان تفتحه على القوة التحويلية للأعمال الأدبية أقل ورودا< (12) والآن لم يعد مجال للشك أن إيزر يجعل وظيفة الأدب، تحوي قناعات القراء ''الأكفاء'' أي القراء الذين يجعلون من الأدب حقل انكشافهم وتبني أنماط وعي جديدة. الحديث عن القارئ الإيزري يقود إلى القول إنه من الصعب أن نقتنع بفكرة ومفهوم القارئ الضعيف على الصيغة المقترح بها. فإذا كان كل عمل يتوجه -حقا- إلى قارئه الضمني، أي إلى قارئ يستحضر ثقافته وميولاته وتطلعاته، فإن القول بعد هذا إن دور هذا القارئ يمكن أن يشغله أي قارئ واقعي أمر يفقد جدارته لسبب بسيط هو أن القارئ يأتي النص متسائلا كاشفا كل مرة عن حمولاته الخاص، وإلا كيف سنفسر تضارب القراءات والتمثلات؟ هذا الأمر هو الذي استفز بيير زيما، وحدا به (ونكاد نتخيله يقود حركة احتجاج!) إلى أن يكتب عبارة لا ضير لو تم اعتبارها لافتة أو شعارا: >لا يمكن أن يتطابق النص الأدبي مع أي من تأويلاته<. (13) ثم إن القارئ الضمني'' ليس مجرد صنف من القراء، وإلا فهناك قارئ ''مخبر'' وآخر '' أعلى''، وثالث ''معاصر'' وقارئ ''مقصود'' وآخر ''مثالي''، كما يميز ذلك إيزر نفسه. ونخشى أن ينطبق ما قاله إيزر عن القارئ ''المثالي'' من أنه ما دام يشاطر المقاصد المتضمنة في أعمال الكاتب >فسيكون التواصل زائدا تماما، ولأن المرء لا يبلغ إلا ذلك الشيء الذي لم يسبق أن تقاسمه المرسل والمتلقي< (14). ومع كل هذا، فإن مفهوم القارئ الضمني يتيح فرصة وإمكانية البحث من خلال ثنايا النص وخطابه (خصوصا النقدي) عن ملامح وسمات قارئ ''مضمن''، ليس باعتباره ''بنية نصية'' بل باعتباره فردا أو جماعة أو مؤسسة ماديين أو معنويين يتوجه إليهم الكاتب ويتم استحضارهم باستمرار. إنه قارئ يكاد الكاتب يرسم بدقة أسسه المعرفية ورهاناته الثقافية وجهازه القرائي وأفق انتظاره الخاص. وهكذا من الممكن -كما يلحظ ذلك إلرود إبش- أن نترجم تحليل السيرورات المتصلة بالقارئ الضمني] إلى فرضيات قابلة لتأكد تجريبيا، خصوصا أن إيزر لا يعارض قيمة البحث التجريبي<. (15) بل خصوصا أن إيزر يرى أن كل مكونات وعناصر النص الأدبي تكون محددة بمنظور خاص، وإذا كان الأمر هكذا، لا مناص من اعتبار القارئ الضمني تجليا من تجليات القارئ الواقعي التاريخي، أو هو هذا القارئ الواقعي وقد تخيله الكاتب على نحو ما. وفي سياق آخر، فحينما يتحدث إيزر عن بياضات النص وفراغاته، والتي يتولى القارئ ملأها، فإنه لا يتعرض لوصف اشتغال البياض إلا في مستوي التلقي شبه التداولي. فالبياض] عنده مجرد منبه، أو ميكانيزم للإنطلاق يختفي باعتباره كذلك بمجرد ما يبدأ فعل القراءة. والحال أنه في التلقي المقبول حقا (...) في حالة التلقي من نوع ''شبه المرجعي'' ينبغي عوض أن نملأ الفراغ في النص، أن نتساءل عن ذلك<. (16) بمعنى أن ننفي الالتباس، وندفع مأزق القراءة، وبالتالي أن نعدل من نظام النص كما يرى ستيرل. ولعل هذا السبب هو الذي أدى بالألماني رولف كلوبفر إلى إعادة النظر في فكرة البياضات النصية والوقوف عند خمس مقولات مختلفة؛ أولا : شكل الالتباس غير المحقق الذي يطابق ما لا يشير إليه النص، أو ما يسكت عنه بسبب نقص في الملاءمة (مثل لون عيون الشخصية). ثانيا كل مكان أو كل ''نقطة'' يشعر القارئ أن ثم نقصا فيها لسبب من الأسباب. ثالثا كل مكان أو ''نقطة'' تعمد النص السكوت فيها لجعل مشاركة القارئ فاعلة أكثر. رابعا كل مكان أو ''نقطة'' في النص يخفق القارئ في تحديد دلالاتها المتعارضة. خامسا كل مكان أو ''نقطة'' في النص تنحدر من أفق مرجعي أكثر تكثيفا لا يمكن للقارئ أن يغامر بإعطائه دلالة واحدة ووحيدة (17).
الهوامش :
1) Pierre.V Zima: Manuel de sociocrtique, Paris , coll connaissance de langues 1985, pp 210-211
2) Ibid , p 211
3) Hans Robert Jauss : Pour une esthétique de la réception, Paris, Gallimard, 1978 p 249.
4) Zima, op cit , p 212
5) Voir Ibid , pp 207 - 208
6) كين نيوتن : >نظرية التلقي ونقد استجابة القارئ< ترجمة سيد عبد الخالق، مجلة القاهرة عدد أبريل 1996، ص 197
7- إلرود إبش : > التلقي الأدبي<، ترجمة محد برادة مجلة دراسات سال، فاس، العدد6 ص : 17
8- ف.شويرويجن : >نظريات القراءة<، ترجمة عبد الرحمن بوعلي نظريات القراءة ، وجدة دار نشر الجسور، ط1 ،95 ص : 73
9-المرجع نفسه ص : 78
10- تييري إيجلتون : >الظاهراتية والهيرمينوطيقا ونظرية التلقي< ترجمة محمد الخطابي، مجلة ''علامات''، مكناس العدد 3، 1995 ص 29
11- المرجع نفسه، ص : 30
12- أورده تييري إجلتون، المرجع نفسه، ص 29
13- P.V Zima opcit p : 202
14 -فولفانغ إيزر: ''فعل القراءة'' ترجمة حميد الحمداني والجلالي الكدية، فاس، مكتبة المناهل ، 1995 ص 22
15- إلرود إبش، مرجع سابق ، ص 15
16- ف. شويرويجن ، مرحع سابق ، ص 79-80
17- Kloepfer Rolf : Escape into reception، أنظر المرجع السابق ص 78-79

علامات عدد : 17  / 2002