نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها
دكتور حسن مصطفى سحلول
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
سد تيزي وزو
ماذا نقرأ في النص الأدبي
1- مستويات القراءة:
إِننا نقرأُ دائماً عدّة أشياءٍ معاً في نصِّ ما، وفكرةُ تعدّد معاني النصِّ الواحدِ أو تعدّد مستوياتِ القراءة هي قديمةٌ قِدَمَ القراءة ذاتِها.
ومنذ الإغريقِ كان التدريسُ مُدرِكاً للصعوبات التي يُثيرُها تأويلُ النصوصِ ويُؤكِّد على ضرورةِ الاعتمادِ على منهجٍ واعٍ في القراءة. وكان السوفسطائيون أولَ من وضع قواعدَ ذلك المنهج وجاء بعدهم أرسطو، ومؤلّفاتُهُ ونخصُّ منها كتاب البلاغة وكتاب الشعر. وثبتَ عندهم أن القافيةَ ووقعَها على نفس القارئ"، وأسلوبَ المؤلِّفِ وفنونَ الخطابةِ والبديع، كلّ ذلك عناصرُ موضوعيةٌ نستطيع بفضلِهِا إنشاءَ تحليلٍ للنصّ وبالتالي أن نقبضَ على ناصيةِ معنىً من شأنِهِ الإفلات أبداً.
ولقد قطعَ فقهُ اللغة مرحلةً جديدةً في عهدِ أوج الاسكندرية وازدهارِها أيام البطالمة (بين القرن الرابع والأول قبل الميلاد)، فقد كان تجميعُ التراث الأدبي الإغريقي وتصنيفهُ في صدور مكتباتِها يقتضي نشاطاً فكرّياً ونقديّاً كبيريْن. ولم تكن غايةُ علمِ اللغةِ عند كتّابها تحقيقَ النصوص الأدبية المحمولة من كل الأصقاع وحسب وإنما تحليلَها وتأويلَها ونقدَها. وكان نهجُ علماء الاسكندرية في ذلك صارماً يسعى إلى التدقيقِ ومقاربةِ ظاهر النصِّ فكانَ ذلك إيذاناً بالقطيعة مع التقاليد اليونانيةِ التي أسسها الرواقيون، ويرفع لواءَها علماءُ بيرغاموس في آسية الصغرى الإغريقية وكانت تزاحمُ مدينة الاسكندرية على الصدارة. وكان هؤلاء يدعون إلى تأويل النصوص تأويلاً مجازياً ويعملون على إظهار معنى النصِّ الخفيِّ وكشف النقاب عن نيِّةِ الكاتبِ ومراميهِ الخبيئة. وكانت نصوص هوميروس بطبيعةِ الحالِ مادّةَ دراستهم المفضَّلة.
والحقيقةُ أن هاتين المدرستين ورغم البون الشاسع بينهما كانتا تطلبان أمراً واحداً هوإيجادُ طريقةٍ في التأويلِ تلمّ بكلِّ أبعاد النص الأدبي. وسوف تُخصِبُ كلٌّ منهما الأخرى.
وأما في العصور الوسطى الأوروبيةِ فإن تأويلَ التوراة بشقيْها العهد القديم والعهد الجديد، هو الذي سيُنشِئُ منهجاً تفسيرياً حقيقياً. وكان هذا يُميزُ بين أربع مستويات في معنى تلك النصوص المقدسة. فهناك المعنى "الحرفي" (أي القصة المحكيّة)، والمعنى "المجازي" (العهدُ القديمُ يُبشّرُ بالعهد الجديد). والمعنى "الوعظي" (مغزى القصةِ الأخلاقي)،وأخيراً المعنى "الباطني" (قيمةُ الرسالة التوراتية عند خاتمة الإنسان).
ثم ما لبثَ هذا المذهبُ في التفسيرِ أن راحَ يُطبَّق على النصوصَ الأدبيةِ الدنيويةِ. وكان دانته الياري (1265-1321)، يُطالب بأن يُطبّق النقّادُ كذلك منهجَهم هذا على ملحمته الشعرية الألعوبة الإلاهية.
وأمّا في ميدان الحضارة العربية فنستطيع القولَ بأن كلَّ علوم اللغة العربية وربما كذلك كل علوم الثقافة الإسلامية قد نشأت في أول عهدها حول مسألة قراءة النص المُؤسِّسِ لهذه الحضارةِ وتأويلهِ ونعني القرآن الكريم، ووضع منهج علمي في التفسير.
ولقد بدأَ الجدلُ الفكري منذ العقد الخامس من القرن السابع الميلادي أي بعد مقتلِ الخليفةِ الثالث عثمان بن عفّان وانقسام الأمّة إلى أحزاب وشيعٍ يبذلُ أنصارُها كلَّ جهدهم لتبرير مواقفهم السياسيةِ تلك بآياتِ القرآن، وبنصوص الحديث يفسّرونَها ويُؤولونَها لدعم قضيتِهم أو لنقضِ دعاوى الخصمِ.
ثم ظهرت مع اتساع رقعة الدولة العربية ودخول أمم أخرى ذات لغات غير العربية وثقافات مختلفةٍ وانتشار الإسلام كدين للدولة الجديدة قضايا جديدةٌ ومسائل طريفة سُئِلَ النصُ القرآني عن إجابة لها وظهرت مذاهب في تأويل القرآن عديدةٌ تعتمدُ على أسس فكرية وطرق علميةٍ مختلفةٍ.
فكان ما أسمي بالتفسير بالمأثور. وأجلُّها تفسيرُ ابن جرير الطبري (839-923)، جامع البيان في تفسير القرآن. وقد عرض فيه لأقوال الصحابة وآرائهم وذكر بعض وجوه الإعراب والقواعد لتعزيز هذا التأويلِ أو ذاك ولتفضيل هذه القراءة على غيرها. ومن التفاسير بالمأثور تفسير ابن كثير، في القرن الرابع عشر وكتاب السيوطي (1407-1475)، الدرِ المنثورِ في التفسير بالمأثور.
وكان ما أسمي بالتفسير بالرأي. وقد أثار جدلاً شديداً بين العلماء فمنهم من حرّمه ومنهم من جوّزه. ولكن اختلافهم كان يقوم في الحقيقة حول شروط القراءة والقواعد التي ينبغي الأخذ بها حين التأويل وليس حول مشروعية تعدد قراءات القرآن الكريم. ولقد يستطيع القارئُ الراغبُ في معرفةِ هذا الجدلِ وبمختلف شروط النهج التي لابد منها لقبول التفسير بالرأي أن يعود إلى مؤلّف قاضي دمشق بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (1344-1391)، البرهان في علوم القرآن (1) وأشهر التفاسير التي تتوافر فيها تلك الشروط تفسيرُ فخر الدين الرازي (1149-1209)، المسمى مفاتيح الغيب والمشهور بالتفسير الكبير، وتفسيرُ عبد الله بن عمر البيضاوي (توفي نحو 1282)، المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
وظهرت تفاسير للقرآن تدافع عن الفرق الإسلامية وتنتصر لها وتعتمد في تأويلها للنص المُؤسِّس على مقدمات فكرية أو فلسفية مختلفة عن التفاسير التي سبق ذكرُها. من ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوّفة والباطنية وغيرها. فقام تأويل المعتزلة على المذهب الكلامي وحسب مسلّمتهم الفكرية: الحسنُ ما يستحسنُهُ العقلُ والقبيحُ ما يستقبحهُ العقلُ. ولم يعتمدوا إلاّ نادراً النصوصَ النبوية في أدواتهم لشرح معاني الآيات. وخيرُ ممثّل لهذه النزعة العقلية في القراءة محمود بن عمر جار الله الزمخشري (1075-1144)، في كتابه الكشّاف عن حقائق التنزيل.
ويغلب على تفسير المتصوّفة التعقيدُ والإحالةُ إلى أنظمةٍ معرفيةٍ أخرى لتأويل النص القرآني. ذلك ممّا يجعل كلامهم غامضاً إلاّ على المشتغلِ بالشؤونِ الروحية والذي تعلم أساليب المتصوفة ومرن عليها. وأشهر التفاسير التي من هذا النوع كتاب التفسير المنسوب إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الأندلسي (1165-1240)، وهو في حقيقة الأمر من تأليف كمال الدين أبو الغنائم الكاشي (توفي 1329).
ومذهبٌ آخر في قراءة النصّ الكريم هو ما يسمى بالتأويل الإشاري. وفيه تؤوّل الآيات على غير ظاهرها مع محاولة الجمع بين الظاهر والباطن. أي أن المفسِّرَ يوردُ تفسيرَ الآيات حسب ظاهر الحرف ثم يشير إلى ما يعتبره معاني خفيةً يستنبطُها بطريق الرمز والإشارة. ومن ذلك تفسير الألوسي روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
وهناك تفاسير الباطنية وهم يقتصرون على الأخذ بما يعتبرونه باطن القرآن ويهملون ظاهرَهُ أي بنيته القواعدية ونظامَهُ الصرفي.. ولكلٍ من هذه المذاهب طريقته في التأويل. ولكل طريقةٍ في التأويل قواعدها العلمية ومسلماتها النظرية أي ترابط وتماسك داخليان تقوم بهما ويفسران نتائجها. وهي تشير جميعها، وبغض النظر عن الصراعات التي نشأت بين أنصار كلٍّ منها وعن الأحكام التي أطلقها بعضُهم على بعضهم الآخر، إلى وعي العرب المسلمين بتعدد مستويات القراءة في القرآن الكريم أي إلى وجود قراءات عديدة لذاتِ النص الواحد.(2).
وبطبيعة الحال فإن هذا الوعي لم يتوقف عند علوم قراءة الكتاب التأسيسيَ ولا عند العلوم الدينية التي ظهرت بفضلّها. ونحن واجدون، ومنذ منتصف القرن الثامن، نصّاً يشير بوضوح قاطع إلى وعي تعدد القراءات في النصوص الأدبية وإلى ضرورة أخذها بعين الاعتبار حين تحليلها. ففي مقدّمة عبد الله بن المقفع (724-759)، لكتابه كليلة ودمنة والتي اقتبسنا منها مقاطع في الفصلِ الثالث من كتابنا هذا يطالب الكاتبُ قارئه بأن يديم النظرَ في كتابه وأن يلتمسَ معاني خبيئةً خلف المعاني الظاهرة وأن يغوصَ إلى ما وراءَ سطح المعنى المباشر التماساً لجواهر المعاني. ويُحذّرُهُ من قراءة متوحّدة إذا حسب أن غايتَه من الكتاب هي الإخبارُ عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور. ثم يبسط ابن المقفّع لقارئه مستويات التأويل التي يراها في نصّه فيقول:
"وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومُقتنيه أن يعلمَ أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراضِ: أحدهما ما قصد من وضعه على ألسنة البهائم ليتسارع إلى قراءته أهلُ الهزل من الشبان فيستميلَ به قلوبَهم [ ] والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوفِ الألوان والأصباغِ ليكون أنساً لقلوب الملوكِ.[ ] والثالثُ أن يكون على هذه الصفة فيتخذهُ الملوكُ والسوقةُ فيكثر بذلك انتساخُهُ وينتفع بذلك المصوّر والناسخ أبداً. والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك يخص الفيلسوف خاصةً أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة"(3).
وهذه الأمثلة من ثقافات متباينة وعصورٍ مختلفةٍ توضح أن مسألة تعدد التأويل النظريةَ هي من بنية النص المكتوب ذاته وأن القراءةَ لم تكن لتستطيع الاكتفاء بمعنى واحد ضيق ومحصور في النص الأدبي.
1 ـ 1 ـ تعدّد الأصوات:
هناك إذن عدّةُ مستوياتٍ في قراءةِ النصِّ الأدبي أو عدّةُ أصواتٍ في النصِّ الأدبي الواحد..!..
كيف يُمكننا أن نشرحَ هذه الحقيقةَ التي يقبلُها جميعُ النقّاد اليوم؟
إننا نشرحُها ببنيةِ النصِّ الداخليِّةِ أولاً. فنحن نعرفُ أن الخطابَ الجمالي وعلى الأخص الشعر منه يفضّلُ المبنى على المعنى أي أنّه يعطي الأسبقيةَ لظاهرِ العلامة الصوتية ولجمالِها الموسيقي أو الشكلي. أي أنّه مضطرٌ للغموض والإبهام. وبتعبيرٍ آخر لأن المبنى يفرض نفسَه على حساب المعنى ولأن الشكلَ يطغى على المضمون فإن الأدبَ يلدُ معانيَ غامضةً وأفكاراً مضطربةً!...
وبما أنّ النصَّ الأدبيَّ يُنَظِّم المفرداتِ حسب جماليتها ويفرضُ عليها سياقَه الخاص فإن المفردات تنفصلُ عن معانيها الأصليةِ الأولى وتبتعدُ عنها مسافةً قد تضيقُ أو تعرضُ. وفي هذه المسافةِ التي يُحرِّرُها الهاجسُ الجمالي تفقد المعاني حدودَها الصارِمةَ وتتداخلُ ببعضها ويتأثرُ بعضهُا ببعضها الآخر فتتولّدُ معانٍ جديدةٌ وتتعدّدُ إمكانيات التأويل. إنّ الخطاب الشعريَ خاصةً يسمحُ للألفاظِ أن تهتزَّ، وأن تموجَ وتتحركَ في حريّةٍ وطلاقةٍ، وعندما يفعل ذلك فإن اللفظ لا يستدعي إلى الخاطرِ المعاني الجانبيّةَ والإضافيةَ المرتبطةَ بمعناه المباشر أو الشائعِ وحسب، ولكنّه قد يقترح معاني أخرى مختلفةً أو يوحي بصورٍ جديدةٍ لم يألفها القارئُ. الخ... وكلّنا يعرف بيتَ المتنبي (915-965)، الشهيرَ الذي قذفه متحدِّياً في وجوهِ نقّادٍ كانوا يأخذون عليه غموضَ شعرِهِ أو التباسَ معانيهِ:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها
|
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصِمُ
|
(البحر البسيط)..
أليست شواردُها هذه هي موسيقى الكلمات وتناغِمِها في أذن الشاعر تفرض نفسَها عليه فيُطلقُها كما تجيئُهُ أوسع من معناها أو أقصرَ أو أبعد؟.. وبين هذه وتلك يَنتشر غموضُ الشعرِ وسحرهُ المبهمُ ولنذكر بيتَ الأعشى الأكبر التالي من لاميته المشهورة: ودّعْ هُريرةَ..
وقد غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يَتبعُني
|
شاوٍ، مِشَلٌّ، شَلولٌ، شُلْشُلٌ، شَوِلُ
|
وأغلبُ ظني أن الشاعر الكبيرَ قد نظمَ عجزَ بيتِهِ على هذا النحو لعذوبةِ السلسلةِ الصوتية التي يحصلُ عليها بتراصفِ الشين واللام، وبسقوطِ أحرفِ المدِّ بينها، فأخذها عليه نقّادٌ يرون أن وضوح المعنى أجدر باهتمام الشاعرِ من رصفِ الكلمات.(4)..
وتقوى صفةُ تعدِّدِ التأويلِ هذه بتعدِّدِ الشبكاتِ الدلاليةِ التي تمتازُ بها أغلبُ النصوصِ الأدبيةِ فهذه تقيمُ في نفسِ الوقتِ شبكاتٍ دلاليةً متنوعةً وتسلك في ذات اللحظة سبلَ معانٍ متشعّبةً فتقودُ قارئها إلى سبلِ تأويلٍ متباينةٍ ومتكاملةٍ معاً وإلى استخلاص وحداتٍ معنويةٍ مختلفةٍ... ماهي الشبكةُ الدلاليةُ الأساسيةُ في كتاب كليلة ودمنة؟ تربيةُ السلطانِ أم تسليةُ العوام؟ مباهاةُ العربِ بتراثِ الفرسِ وإعلاءُ حزبِ الشعوبيةِ المتعاظِمِ بعد سقوط الأمويين أم مساهمةً لوجهِ الله في إغناءِ أدبٍ بنوعٍ يجهلُهُ بعدُ؟ الخ... كيف نحدِّدُ كتابَ حي بن يقظان لابن طُفيْل (توفي 1185)؟ حكايةٌ رمزيةٌ عن الخُلقِ والخليقةِ أم قصةٌ فلسفيةٌ إشراقيةٌ ذات نزعةٍ أفلاطونيةٍ مستحدثة؟ تمثيلٌ للمخلوقِ يبلغُ ميدانَ الحكمةِ بقوة العقلِ أم وصفٌ لتخبِّط الإنسان في ميدان الواقع والمادة؟ كيف نُؤوّل بقيةَ العنوان أسرار الحكمة الإشراقية؟ أهي روايةٌ باطنيةٌ؟ ما غرضُ كتاب الحيوان الأساسي؟ دراسةٌ علميةٌ للعالم الحيواني أم محاولةٌ للاستدلال على عظمة الخالق بدراسة المخلوقات؟..
إنّ أهميةَ النصِّ الأدبي تقوم بالضبط على أنه يستحيلُ علينا أن نأخذَ بقراءةٍ دون غيرِها أو أن نُعلنَ شرعيةَ تأويلٍ وإنكار سواه..
1 ـ 2 ـ نصوص تُنسخُ ونصوص تُقرأ!
إذا كانت القراءةُ تميل إلى مُضاعفةِ المعاني فإن طبيعةَ مستوياتِ هذه المعاني وعددَها يختلفان حسب طبيعةِ النصوصِ، فليس لكلِّ النصوص ذاتُ العدد من المستويات. ولقد ميّز بعضُ النقّاد بين النصوص التي يُمكن "نسخُها" وتلك التي تُمكن "قراءتُها".. والنصوصُ الأولى هي نصوصٌ يمكن أن "ينسخها" القارئُ أي أن يؤوِّلها عدداً لا ينتهي من المرّات. أي أنّه "يكتبُها". من جديدٍ كل مرةٍ يأخذُ فيها الكتابَ بين يديْه... والنصوصُ الأخرى هي تلك التي تتضمّنُ عدداً محصوراً من القراءاتِ. أيْ أنَّ التحليلَ الأدبيَّ يكشفُ عن شبكاتِ المعاني التي ينظمها النص فينسِّقُها ويُحصيها في قراءاتٍ محدودة. وعليه فإنَّ هناك نصوصاً ما يزالُ القارئُ العربي عاجزاً عن الإحاطة بكل معانيها بسبب ما أُخْضِعَت إليه لُغتُها من جهدٍ وصنعةٍ وبسبب موهبةِ شاعرِها المطبوع. وما يزالُ النقدُ يكتشفُ فيها شبكاتٍ دلاليةً طريفة ومعانيَ جديدةً... ونحن نضعُ بين هؤلاء أبا تمّام (788-845)، والمتبني والأقوالَ المنسوبةَ إلى الجُنَيد (توفي 910)، والنفّري (توفي 965)، الخ... وهناك نصوصٌ كنصوص بشّار (696 ـ 783)، وأبي العتاهية (748-826)، وأبي نُواس (762-813).. وأغلب النصوصِ الأدبيّةِ المدرسيّةِ التي تتقبلُ قراءات متنوعةٍ ولكن محصورة العدد.
ومهما يكن الأمرُ وسواء كان النصُّ الأدبيُّ "نسخياً" أو "قرائياً".. فإنه دائماً وبسبب بنيتِه متعددُ المعاني ومتعددُ الأصوات، وهذه التعددية التي تظهرُ لنا عند القراءةِ هي التي تحدَّد النصَ على أنه أدبيٌّ.
2 ـ القراءة الجابذة أو التوحيدية:
إذا كان النصُّ يضع القارئَ أمام سبلٍ في القراءةِ متعددةٍ فإنِّهُ من الأكيد أن ليسَ لكلِّ هذه القراءات الممكنة ذات الأهميّةِ.
ونحنُ نستطيعُ أنْ نقرأَ وقد وضعْنا كمسلمةٍ وجودَ معنى جوهريٍّ أو أصليٍّ تتعلّقُ به المعاني الأخرى أو تنبثقُ عنه كما تنجُمُ فروعُ الشجرةِ المختلفةِ عن أصلٍ واحدٍ أساسي. وهذه العلاقةُ التي يُنشئِها القارئُ "العادي" تلقائياً مع النص يدافعُ عنها بعضُ النقّادِ اليوم ويجعلون منها أساسَ العمليةِ التأويليةِ.
ويُطلقُ هذا التّيارُ النقديُّ على أنصارِهِ اسمَ الهرمونوطيقيين. وهذه الكلمةُ الأخيرةُ من أصلٍ يوناني وتعني التعريف بالشيء والإبانةَ عنه ونقلَهُ وترجمتَهُ أو ترجمةَ معانيهِ... وهذا المذهبُ في تأويل النص الأدبي يعتمِدُ مبدأ التماسكِ والترابطِ. أيّ أنّه يوجبُ تأويلَ عناصرِ النصِّ المتفرّقةِ على ضوءِ الهيكل العام. وهو يرى أنه مهما تباينت هذه القراءاتُ فيما بينها فإنه من الممكنِ دائماً أَنْ نُرْجِعَ العملَ الأدبيَّ إلى النّيةِ التي أنشأته وإلى أصلِهِ الأوّل أو جذرهِ العميقِ الذي يضمنُ وحدةَ أجزائِهِ ووحدةَ معانيه المتفرّقة.
وواجبُ الباحثِ حسب هذه المدرسة النقدية هو أن يتركَ سطحَ العمل الفنيّ لِيستكشف مركزَه الباطني الحيّ.فعليه أن يرصدَ التفاصيلَ البينةَ على سطحِ النصِ والأفكار المنثورة الظاهرة ثم يجمعَ تلك التفاصيلِ وهذه الأفكارَ ويحاول أن ينظمها في مبدأ خلاّقٍ واحدٍ كان ولا ريب يقودُ قلمَ المبدع حين يكتب. وعلى الباحث بعدها أن يمضي إلى ميادين الملاحظة ليتحقق إن كان "الهيكل الداخلي" الذي كشف عنه يفسر كل أجزاء النص الأدبي، وبعد محاولتين أو ثلاث يستطيع الناقد أن يعرف إن كان قد بلغ قلب العمل الأدبي النابض واكتشف كوكب نظامه الشمسي وسيعرف عندها إن كان مبدأُ تأويله قائماً في مركز دائرة النص أو في نقطة ما على محيطه..
فدراسة "الجزئيات" عند أبي عثمان بحر الجاحظ (775؟ ـ 868؟)، وتنظيم "التفاصيل" التي تملأ كتاب الحيوان حسب أنواعها أو منطق استحضارها في النص ودراسة تدرُّجِ المعاني والصور وتصاعِدها عند ابن الرومي (835-896) تساعدنا بفضل مقاربات متلاحقة على فهم شامل لأدب الرجلين.
إن النقد الهرمونوطيقي يسعى إذن إلى إنشاء قراءة تأويليّة مركزية وعقلانية تربط كل تفاصيل النصوص المعقّدة بخط معنوي توحيدي، وهذا المبدأُ المُوحَّد الذي يُنظَّم القارئ بموجبه تأويله هو الموضوع الذي يسكن كل زوايا الكتاب ويتكشف فيها..
وأبعدُ النصوص عن النزعة الذاتية، وأفقرُها بالقيم الشخصية كتلك التي تلتزم المواضيع المطروقة والأشكال المألوفة (كالنسيب في القصيدة الجاهلية مثلاً)، لابد وأن يختلج فيها وعلى نحو خفي نشاطٌ روحي مركزي يشد إليه أطراف القطعة شداً قوياً مع كل ما تحمله من أفكار وعواطف وخطرات. فخلف تعدد المواضيع في القصيدة التقليدية الجاهلية تكمن فكرةٌ موجِّهةٌ قد تكشف عنها القراءة المُتأنيةِ كما فعل طه حسين حين درس لبيد (560؟-661؟)، وطرفة بن العبد (543؟-569؟)، وزهير بن أبي سلمة (530؟-627؟)، ...(5).
وليس يسعنا أن ننكر أن الموضوعَ الذي يسكن كل زوايا الكتاب هو الكاتبُ نفسه وقد انتقل إلى داخل مؤلّفه وعاش في ثنايا كتابه. وبطبيعة الحال فإننا لا نقصد هنا شخص المؤلّف كما يظهر لنفسه وفي مرآة ذاته أو في عيون الآخرين محدوداً في الزمان والمكان مشغولاً بمتاعب الحياة اليومية. وإنما المقصودُ بالمؤلف ذاتُه العميقة الفاعلة وعقله الخلاّق وهو يُعمِلُ الفكر واعياً وقد التحم بنصه وبكل الأشياء التي اختار مواجهتها التحام الأرض بالجذر. ليس الجاحظ الذي يعنينا هو الرجل المريض بالنقرس والمصاب بالفالج أو الذي ترك حاميه ابن الزيات حين نكبه الخليفة المتوكل لأنه لا يريد أن يكون "ثاني اثنين إذ هما في التنور"! هذا هو أبو عثمان عمرو بن بحر من موالي كنانة. وأما الجاحظ فهو الفكر الوثّاب والذهن المتقد والناظم المُبدِع الذي ينفث في كتابه قوة ذاكرته وفضولهِ الموسوعي ودقة ملاحظته وسلامة منطقه وقدرته على المحاجة والإقناع وتوليد الأفكار.
إن قراءة النص الأدبي تعني إذن أن ندرك حضور الكاتب في داخله..
إن الاعتقادَ بوجودِ معنى أصلي يكون مفتاحاً لقراءةِ النصِّ ليس والحق يُقال اعتقاداً يختصُّ به أنصارُ مذهبِ التأويلِ الهرمونوطيقي دونَ غيرهم ونحن نجدُ هذه الرؤية لمعنى يسكنُ النصَّ كحقيقتِهِ الأولى في علمِ الدلالات البنيوي. وإنَّ مفاهيمَ كمفهوم "البنية الدلالية العميقة" أو مفهومَ "جوهر المضمون"، والتي قَبَسْتها الألسنيةُ البنيويّةُ من الألسنية التوليديّة توحي كلُّها بوجود مضمونٍ يحجبُهُ الشكلُ. فيكونُ هدف القراءةِ إذّ ذاك هو كشف الغطاء عنه...
وهذه الطريقةُ في النظرِ إلى النصِّ تفترضُ وجودَ مستوى سرديٍ ظاهرٍ يقابلُهُ مستوى قائمٌ في الأصل فكأنّه جذرٌ بنيويٌ عامٌ تنتظم فيه الإمكانياتُ السرديةُ في حالةِ كمون قبل أن تتجسّدَ وتظهرَ على سطح المستوياتِ التالية. وعليه ففي كلِّ نصٍّ من أنواع الأدب التخيلي، حسب هذه المدرسة، معنى أوّليٌّ وعامٌ يستطيع كلُّ قارئٍ أن يدركَهُ!...
2 ـ 1 ـ تأويل النص وثوابت الحياة النفسية:
إنّ مقاربةَ التحليل النفسي للنصوصِ الأدبيةِ تنطوي في هذا التيّارِ النقدي العام الذي يبحثُ عن جذرٍ تأويلي.... ونحن نبتعدُ هنا عن القراءةِ الواعيةِ المدرِكةِ وندخل في عالم التلقّي اللاواعي. وإذا قبلنا بمبدأ أنَّ الرغباتِ الباطنيةَ الدفينةَ هي في نفس الوقتِ قليلةُ العددِ وعامةٌ يشترك بها جميعُ الناس على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم استطعنا أن نفهمَ وأنْ نشرحَ لماذا يميل القارئُ لكتبِ الخيالِ أكثر من غيرِها... فهو يكتشفُ أو يتوهّمُ أنه يكتشفُ خلالها بُنى رغباتهِ الاستيهامية الكبرى. والقارئُ لا يفتأُ يبحث دائماً عن ذات الرغبات ونفس الأشياءِ في الأدب التخَيُّلي.
وبتعبيرٍ آخر فإنَّ كلَّ قارئ، حسب منهج التحليل النفسي يجدُ خلال الحكايةِ التي يقرؤها "حكايةَ عائلتِهِ"، هو. ذلك أن َّ كلاً منا ينسجُ لنفسهِ في طفولتهِ حكايةً وهميةً يستبدلُ فيها أقاربَه الحقيقيين بأقاربِ من نسجِ خيالهِ وعلى صورةِ نزواتهِ. ويكبحُ الطفلُ فيما بعد عندما يكبرُ من جماحِ هذه الحكاية الخرافيةِ ويدفنها في أعماقهِ ولكنها لا تموتُ ولا تختفي اختفاءاً كاملاً. وربما كانَ ميلُنا للرواية الأدبية ناشئاً عن هذه الحكاية الوهمية النائمة فينا. وإيمانُ كلٍّ منا الراسخُ بحكايةِ طفولتِهِ "الوهمية" هو التفسيرُ الوحيدُ المقبولُ للوهمِ الروائي. ذلك الوهم الذي يجعل القارئَ سواءاً كان قارئاً ساذجاً أو فطناً يحسبُ أن بإمكانه حقاً أنْ يلتقيَ بمصطفى سعيد أو برؤوف علوان في الحياة اليومية وهذا الوهم هو الذي يجعلنا نحزن أو نفرح لما يصيب البطل الروائي أو على الأقلّ يجعلنا نعنى بمصيره. وهكذا فإنّ تأثّر القارئ بحياة الشخصيةِ الورائية يبرهن على قوّةِ إيمانه بما كانت تبدعهُ مخيلتُهُ في طفولته. ولقد تلعب هذه المخيلة والقصص التي تبدعها دوراً في تنظيم بنيتهِ الشخصية يبلغ من أهميتهِ أنه يصير الأساسَ النفسي لكل إيمان القارئ بالسرد الروائي. فما إن تنخرط الشخصياتُ الروائيةُ في سياقِ الحبكةِ الروائية حتّى تذكّرَ القارئَ بالحكاية الأساسية التي تخيلَها صغيراً والتي ما يزال يعتقدُ ورغمَ مرورِ الوقتِ ورغم تقدِّمهِ في العمرِ بأنَّها حقيقةٌ أو بعضٌ من الحقيقةِ!..
إنَّ ما نقرؤه قبلَ كلّ شيءٍ والكلماتِ التي نجدها تلقائياً واضحةً وما نتعرّفُ عليه بغير علمٍ منّا هو ثوابتُ الحياةِ النفسيةِ غيرُ الواعيةِ وقد امتزجت امتزاجاً يصعُبُ فكُّ عراه باستخداماتِها الإيديولوجيةِ. وبتعبيرٍ آخر إِنْ كانَ علينا أن لا نهملَ دورَ الإيديولوجيةِ الهامَ في توجيهِ تأويلِ القارئِ للنصِّ الأدبيِّ فإنّ علينا أن نعيَ أنّ ما يدركُهُ القارئُ على غير وعي منه هو تلك الثوابت النفسية.. وعليهِ فإنّه من المشروع تماماً الاعتقاد بأن الآليات النفسية التي تتحكم في الإبداع والخلق الأدبيّين لا تختلفُ كثيراً عن الآليات النفسية التي تتحكّمُ بتلقي النص وتأويلِهِ. وكما أنّ العملَ الأدبيَ يُبدعُ إرضاءً لرغباتِ الفنّان الدفنية وترجمةً لها فإنّه يُرضي كذلك رغباتنا الدفينةَ نحن القرّاءَ. والمشاعرُ التي تختلجُ فينا عندما نقرأ هي صدى أهوائنا الخبيئةِ التي يوقظُها النصُّ في أعماقنا. وهذه الأحاسيسُ من حبورٍ أو حزنٍ أو قلقٍ أو اشمئزازٍ وضجرٍ وإلى غير ذلك ليستْ إلاّ صدىً لِما توقظُهُ فينا أهواءُ الكاتب.
ولقد أصابت بعضُ الروايات شهرةً كبيرةً في أوساطِ القرّاءِ رغم سذاجةِ بنائها الفنّي ورغم تحليلِها الضعيف والسطحي للشخصيات الروائية بفضل ماكانت تُرضيهِ ـ وما تزالُ ـ عند قرّائِها. ومن هذا القبيل نجاحُ بعضِ روايات إحسان عبد القدوس أو محمد عبد الحليم عبد الله (1920-1970)، فتعبيرُ هذه الرواياتِ عن ظمأٍ شديدٍ للحبِّ وحاجةٍ قويةٍ لاختلاطِ الجنسيْن بعضهما ببعض بأسلوبٍ سردي يدغدغُ ميولَ القارئِ وغريزته كان بلا ريبٍ خلف تحمّس جمهور من القرّاء لهذا الشكل من التعبير الأدبي رغم تبسيطهِ البالغ للمسألةِ. وكان بلا ريبٍ كذلك خلف استنكارِ بعضِ الأوساطِ الفكريّة له.
إذن ولأنّ الرغباتِ الدفينةَ هي ذاتُها عند المؤلّفِ وقارئِه فإن هواجسَ الأولِ توقظُ هواجسَ الآخر. أي أن فعل القراءة هو أنْ يجد القارئ في نفسه ذات المتعة التي أحس بها الكاتبُ عند الكتابة.
3 ـ القراءة النابذة أو التفكيكية:
ولكننا نستطيعُ مقاربةَ النصِ وقراءته على نحوٍ يختلفُ عن الشكلِ الذي عرضْنا له حتى الآن فيما سبقَ من المقالةِ. وفي هذه الحالة لا تكون القراءةُ بحثاً عن انسجام النص وما يشكل ترابطه وانسجامه الداخليين ولكنها سعيٌ حثيثٌ خلف تناقضاتِ النصِّ الداخلية ومعارضاتهِ. ويمكننا أن نسميها بنزعة القراءة التفكيكية أو بالنشاط التهديمي.
ولقد نظّرَ نقّادٌ لهذا النهج في التأويل الأدبي (الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا Dérida.J وأعوانه) اعتماداً على الألسنية البنيوية وخصوصاً على علمِ الأصواتِ فيها. فالعلامةُ الصوتية (أصغر وحدة صوتيةٍ في نظام اللغة الصوتي كالصوت سين أو غين الخ...) تُنشِئُ نفسَها داخل النظام اللغوي بما تختلفُ فيه عن بقية العلامات الصوتية في ذات النظام اللغوي. أي أن العنصرَ الصوتي لا يوجد إلا بالعلاقة التي تربطه ببقية العناصر الأخرى وهي علاقةُ تمايزٍ واختلافٍ ومعارضة. وعليه فليس للغة إذن مركز ثابتٌ يشدُّ إليه عناصرَها المكوّنةَ، ولا بدايةَ لها وليس لها مستوى أصلي ابتدائي ولا مكانَ انطلاقٍ. وبالتالي يُصبح من المستحيل علينا إن سلّمنا بمقدماتِ هذه المدرسةِ النقديةِ أن نتخيّل الكتابَ على صورةِ كلٍّ كامل ويصبح من العبث أن نحاول تثبيت معنى النص والإحاطة فيه. فهذا سراب عابر لا يكاد يتركّب حتى يتفكّك ولا يكاد يتراءى حتى يغيب ويضمحل!..
إنّ هذا النهج في القراءة يناقضُ كلَّ المعارضة نهجَ القراءة المركزية التي يبشر بها أصحاب النزعة الهرمونوطيقية. فهو ينادي كما نرى بقراءة تفكك النص وتبعثِرهُ. وهو يدعو كذلك إلى تجنب أن تهيمن خطوط المعاني على القارئ فتأخذُ بلبِّه وتفرضُ عليه أوهامها التوحيدية. وينصحُ هذا المذهب القارئ بأن يعبر النص ببطءٍ وأن يقف طويلاً عند أدقِّ تفاصيلهِ وأن يتأمل رويداً في كل جزئياته. وهذا البطءُ المقصودُ يُضعفُ مقاومةَ القارئُ أمام المفرداتِ فتجرُّهُ هذه إلى اللجّةِ العميقة الساكنة خلف سطحِ الكلمات وترمي به في هذه العوالم التي لا تكاد تنتهي. فالكلمة المُنخرطة في قواعد النص ونحوه تتشقق أرضها فتبرزُ معانيها الكامنة فيها وشبكات الدلالة التي توحي بها. وهذه الشبكات تشدُّ القارئَ بدورها إلى شبكات أخرى وإلى عوالم أخرى كامنةً خلفها وهكذا دواليك. كتلك المتاهات التي تصفها سيرة الملك سيف بن ذي يزن حيث يجد البطل نفسه أمام بابٍ ويقوده البابُ إلى بابٍ آخرَ وسردابٍ في آخرهِ باب جديدٌ يفضي إلى سردابٍ جديدٍ وكلُّ سردابٍ ينفتحُ على لغزٍ جديدٍ أو على كونٍ غامضٍ لابد من استكشافهِ وفتحِ كلِّ أبوابهِ المغلقة.
إنَّ القراءة الجابذة مُتسرِّعةٌ تبحث عن بنية المعنى الأساسي أو ما تراها كبنية المعنى الأساسي وتجهلُ خلجاتِ المعاني وخفقتها الرقيقةِ وتلامسِ ثنياتِ النصِّ بظواهره اللغوية. ولكنَّ القراءة المتمهلة الدؤوب تُميطُ اللثامَ عنها وتضيء من داخلها سبلَها الملتوية.
ونجد أمثلةً لهذه القراءة التفكيكية عند جمهور مفسّري القرآن الكريم. وسوف نستشهد على زعمنا من تفسير القرآن للحافظ ابن كثير الشافعيّ الدمشقي (توفي عام 1372). فهو بعد أن يستعرض فيما يُنيف على أربع صفحات ميادين المعاني التي تقود إليها الأحرفُ الثلاثةُ الأولى من سورة البقرة {ألم} ينتقلُ إلى الآية الثانية {ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمتقين}. فيقول:
"قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب أي هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جُبَيْر والسُّدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج إن ذلك بمعنى هذا والعربُ تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكانَ الآخرَ وهذا معروفٌ في كلامهم. وقد حكاهُ البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة. وقال الزمخشري ذلك إشارة إلى {ألم} كما قال تعالى {لا فارضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بين ذلك} ـ (البقرة ـ 68). وقال تعالى :{ذلِكُم حُكْمُ اللهِ يحكُمُ بينكم} (الممتحنة ـ 10). وقال {ذلكم الله}، وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدَّم ذكرهُ والله أعلم. وقد ذهب بعضُ المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيرهُ أنّ ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو غير ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعَّف هذا المذهب كثيرون والله أعلم".(6).
ومن الواضح أن المؤلف لا يكتفي بمعنى واحد للجملة التي يؤولها وإنما هو يتفحص كل مفردة بعينها. ويرصدُ كل معانيها الممكنة فيوازن بينها فتقوده الكلمة من سورة البقرة إلى موضعٍ آخر من ذات السورة حيث يعرضُ القرآن الكريم لمحاجّة اليهود لموسى ثم تفضي به الكلمة إلى سورة الممتحنة في مكان آخر من القرآن وسياق آخر وهذه تستدعي آية أخرى من سياق آخر.
هذه القراءة لا تعملُ إذن على الانتقال من المجموع الكثير إلى القليل المتفرد وإنما هي تعمل على مضاعفة المعاني وتصيُّد دقائقها قدرَ الإمكان.
3 ـ 1 ـ المعنى المنفلت دائماً:
إنَّ ما تظهره النزعةُ التفكيكية هو صعوبةُ الإلمام بمعنى القراءة أو بالأحرى استحالة اختصار النص إلى معنى واحد. وذلك لأن العلامة اللغوية مكانٌ يختلطُ فيه المعنى الحرفي والمعنى المجازي اختلاطاً يبلغُ من قوِّتهِ أنه يصعب على القارئ حين يباشرُ نصاً أن يعرف على وجه اليقين إن كان عليه أن ينشئ تأويله حسب بنية الجملة القواعدية وما تفترضه أنظمة النحو والتصريف أو حسب بنيتها الخطابية وبنيتها البيانية. ولنذكر كيف أن نفس النص المسرحي يُخرج على خشبة المسرح بمعان مختلفة وأحياناً متباينة حسب شخصية المُخرِج المسرحي ونظرته إلى النص. فسؤالٌ بسيطٌ من نوع ماذا تريد؟ يمكن أن يوحي بأشياء كثيرة حسب اللهجة والنغمة التي يستعملها الممثل وهو بالتالي يوجه فهم المستمع أو المتفرج للنص الذي يؤديه... ونحن نعرف أن بشار بن برد كان يتخابث على الخليفة المهدي بعد أن نهاه عن التغزل بالنساء فكان ينظم قصائد ظاهرُها، أي بنيتها القواعدية البينةُ، يوحي بالرصانةِ والوقار وباطنُها، أي بنيتُها البيانيّة، يبشر بالعبثِ واللهو.
ألم ينظم الحطيئة (؟ ـ 678؟)، بيتاً ظاهرُهُ مدحٌ للزبرقان بن بدر وباطنُهُ هجاءٌ موجعٌ له؟...
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها
|
واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
|
فلمّا شكاه الزبرقان إلى الخليفة عمر وكان قد نهاه عن شتم الناس أنكر الحطيئة أن يكون بيتُه حسب تأويل الزبرقان. ولكن شاعراً آخر هو حسان بن ثابت (؟ ـ 674)، قضى وهو الخبيرُ بالشعرِ للزبرقان (7).
فإن كانت القصيدة كلُّها أو العمل الأدبي كله قائماً على ازدواجية المعاني والتباسها ومليئاً بهذه البنى الخطابية والبيانية الغامضة صار النص عاصفة لا تهدأ من المعاني المتداخلة والدلالات المتنافسة وأصبحَ من باب الوهم أن نغلقَ باب الاجتهاد في التأويل الأدبي. إنّ أحسن ما يستطيعُ القارئُ أن يختمُ به قراءته هو أن يقول بتواضعٍ شديدٍ أمام النص ما اعتاد قوله عظماء النقاد العربُ: الله أعلم!.. فإذا أخذنا بمذهب التأويل التفصيلي هذا يمكننا تعريفُ النص بأنه ما ينساب دائماً من بين أصابع القارئ!...
3 ـ 2 ـ دور القارئ:
وبدون أنْ نتبنّى كلَّ النتائج المتطرِّفة التي تذهب إليها مدرسةُ التأويل النابذ التفكيكية فإنه من الظاهر أن دور القارئ النشيط في بناء النصِّ، كما رأينا في دراسةٍ سابقةٍ (8)، يستبعد تلقائياً فكرة تأويل نهائي للنص الأدبي. وذلك لأن أنا القارئ التي تنخرطُ في عملية بناء النص هي كذلك نصٌّ دائماً. وموضوع القراءة ليس إلاّ النتيجة المعقّدة لمؤثرات عديدة. وبالتالي فإن الأثر الذي يحدثُ عند كل قراءة هو أثرٌ جديدٌ يحدث للمرة الأولى.
إننا لا نقرأ أبداً نفس النص مرتين.
ويظهر المعنى ليس كشيءٍ قائمٍ ثابتٍ في النص وإنما كنتيجةٍ فريدة للقاء فريد هو لقاء الكاتب والقارئ. ولقد رأى كثيرٌ من المثقفين العرب مثلاً حين عصفت بهم في العقد السادس موجة الأدب الوجودي ومواضيعه في رواية ألبير كامو (1913-1960) الطاعون (1947)، حين ترجمتها إلى العربية الدكتورة كوثر عبد السلام البحيري رواية رمزية لعبث حياة الإنسان عامة والأوروبي على وجه الخصوص أي أنهم قرؤوها قراءة فلسفية.. وأما النقاد الفرنسيون الذين قرؤوها حين ظهرت في باريس بعيد جلاء الجيوش الألمانية التي احتلت أكثر من نصف الأراضي الفرنسية فقد رأوا فيها حكاية رمزية تدين إدانة شرسة النظام النازي بفكره المخيف وبسياسته الهمجية أي أنهم قرؤوها قراءة سياسية مباشرة!
إنّ من المستحيل أن نستنفذ معنى العمل الأدبي. وإن كان بعض مستويات المعاني (تلك التي يبرمجها النص) هي، من حيث المبدأ، بمتناول جميع القراء فإنه من الصحيح كذلك أنّ كلَّ قارئ يأتي بمعنى جديدٍ إضافي.
وإن كان التحليلُ الأدبيُ قادراً على إبراز ما يقرأهُ كلُّ الناسِ فإنه عاجزٌ عن الإحاطةِ بكلِّ ما يُقرأ.
¡¡
¡ هوامش الفصل الرابع:
1 ـ الزركشي. البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، أربعة أجزاء، 1957.
2 ـ صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة السابعة عشر، بدون تاريخ، ص 289-297.
3 ـ عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تنقيح ونشر الأب لويس شيخو اليسوعي، بيروت، دار المشرق، الطبعة الثامنة، 1969، ص 59.
4 ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق دي غويه ومراجعة محمد يوسف نجم، وإحسان عباس، بيروت، دار الثقافة، بدون تاريخ، الجزء الأول، ص 17.
5 ـ طه حسين، حديث الأربعاء، من المجموعة الكاملة، الجزء الثاني، بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1974، لبيد ص 32-59، طرفة ص 59-81، زهير
ص 81-118.
ص 81-118.
6 ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق حسين بن إبراهيم زهران، أربعة مجلدات، بيروت، دار الكتب العلمية، 1988، ج1، ص62.
7 ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، سبق ذكره، ج1، ص 245.
8 ـ حسن سحلول مشكلة القراءة والتأويل في النص الأدبي، المعرفة، عدد 384، أيلول 1995، ص 174-194. ونجوى عبد السلام وحسن سحلول معضلة القارئ النظرية المعرفة، عدد 402، آذار 1997، ص 214-236.
*********************************************************************************
التعليقات
حبيب مونسي
أخي الكريم أفنان القاسم.. قرأت دراستك وأفدت منها الكثير. ولي عليها بعض ملاحظات.. إن القارئ الذي يصادف في أول النص إشارتك إلى الناقد التقليدي يخال أن في النقد التقليدي نقيصة وأنه مثلما زعمت الحداثة موسوم بالرجعية والتخلف وأنه غير قادر على الولوج إلى أسرار النص الإبداعي..وكل ذلك كما تعلم من أحابيل الحداثة التي تبدأ بتسفيه القائم وتزهيد الناس فيه وإبطاله لتضع مكانه رؤيتها الخاص ونقدها الخاص. بيد أن مراجعة الدراسات التي كتبها النقد الحداثي مستندا إلى البنيوية والسيميائية لم يكتب إلا نصا واحدا ولم يستطع في نص من نصوصه أن يدلنا على مكامن الجمال والقبح في نص من النصوص وكل ما يفلح فيه هو سفسطة دائرة حول الجداول والمصطلحات.. لقد كانت قراءتك ثمينة يتعلم منها القارئ حقائق تتعلق بالمجتمع التقليدي والجامعة وآراء الناس فيها.. كان تحليلك الذي أردته تقلديا طافحا بالمعرفة ولو أن بعض المصطلحات الحداثية بسطت ظلالها عليه..
إنني وأنامثلك اليوم أراجع ما كتب النقد الحداثي أستحي من النقد التقليدي الذي سارعنا إلى وأد كتبه وردم إنجازاته.. فلم يعد أبناؤنا في الجامعات يقرؤن نقد العقاد وطه حسين وعز الدين إسماعيل ومصطفى ناصف وعبد العزيز حمودة.. لأنهم مشغولون بجداول غريماس ونزقات بارت وشطط فكو ودريدا.. هاهم أولاء يعودون اليوم فيكتب تودوروف كتابه الأدب في خطر.. ويفتح بعضهم مواقع ليكتب من قتل الأدب..
إن النقد التقليدي أيها الأستاذ الكريم يريد أن يخرج من النص دلالته وأن يقول لصاحبه إن أحسن أحسنت وإن أساء أسأت وأن يضع للفن معاييره التي يجب أن تحترم حتى في حال التجريب والتجاوز..
إننا حين قتلنا الناقد التقليدي قتلنا الأدب وتركنا القطيع من دون راع يصد عنه عادية السباع والضباع
دم طيبا
أخي الكريم أفنان القاسم.. قرأت دراستك وأفدت منها الكثير. ولي عليها بعض ملاحظات.. إن القارئ الذي يصادف في أول النص إشارتك إلى الناقد التقليدي يخال أن في النقد التقليدي نقيصة وأنه مثلما زعمت الحداثة موسوم بالرجعية والتخلف وأنه غير قادر على الولوج إلى أسرار النص الإبداعي..وكل ذلك كما تعلم من أحابيل الحداثة التي تبدأ بتسفيه القائم وتزهيد الناس فيه وإبطاله لتضع مكانه رؤيتها الخاص ونقدها الخاص. بيد أن مراجعة الدراسات التي كتبها النقد الحداثي مستندا إلى البنيوية والسيميائية لم يكتب إلا نصا واحدا ولم يستطع في نص من نصوصه أن يدلنا على مكامن الجمال والقبح في نص من النصوص وكل ما يفلح فيه هو سفسطة دائرة حول الجداول والمصطلحات.. لقد كانت قراءتك ثمينة يتعلم منها القارئ حقائق تتعلق بالمجتمع التقليدي والجامعة وآراء الناس فيها.. كان تحليلك الذي أردته تقلديا طافحا بالمعرفة ولو أن بعض المصطلحات الحداثية بسطت ظلالها عليه..
إنني وأنامثلك اليوم أراجع ما كتب النقد الحداثي أستحي من النقد التقليدي الذي سارعنا إلى وأد كتبه وردم إنجازاته.. فلم يعد أبناؤنا في الجامعات يقرؤن نقد العقاد وطه حسين وعز الدين إسماعيل ومصطفى ناصف وعبد العزيز حمودة.. لأنهم مشغولون بجداول غريماس ونزقات بارت وشطط فكو ودريدا.. هاهم أولاء يعودون اليوم فيكتب تودوروف كتابه الأدب في خطر.. ويفتح بعضهم مواقع ليكتب من قتل الأدب..
إن النقد التقليدي أيها الأستاذ الكريم يريد أن يخرج من النص دلالته وأن يقول لصاحبه إن أحسن أحسنت وإن أساء أسأت وأن يضع للفن معاييره التي يجب أن تحترم حتى في حال التجريب والتجاوز..
إننا حين قتلنا الناقد التقليدي قتلنا الأدب وتركنا القطيع من دون راع يصد عنه عادية السباع والضباع
دم طيبا