دكتور حسن مصطفى سحلول
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
الفصـــل الأول :
في القراءة عامة وفي القراءة الأدبية وأشكالها خاصة
1-القراءة نشاط متعدد الوجوه
إن نشاط القراءة نشاط معقد ومتعدد ينمو في اتجاهات كثيرة. ولقد ظهرت محاولات نظرية عديدة للإلمام بها من خلال أبعادها الكثيرة. وسنعرض هنا لواحدة منها ترى في القراءة نشاطاً ذا أبعاد خمسة أساسية.
1-1-القراءة نشاط عصبي وفيزيائي
القراءة هي قبل كل شيء فعل مادي ومحسوس تمكن ملاحظته ويعبئ ملكات محددة في الكائن البشري. فالقراءة تتعذر مثلاً إن أصاب الجهاز البصري أو بعض أقسام الدماغ عطب كبير فالقراءة إذن وقبل أن تكون تحليلاً لمضمون هي إدراك حسي لرموز الخط وتعرف عليها وتذكّر لها. ولقد حاولت دراسات أن تصف مراحل عملية القراءة هذه وصفاً دقيقاً ومنها كتاب فرانسوا ريشودو : المقروئية (1969). Francois Richaudeau La lisibilité. ولقد برهنت جميعها على أن جهاز العين لا يلتقط رموز الخط الواحد تلو الآخر ولكنه يأخذها "مجمّعة" في رزم صغيرة. وعليه فمن الشائع أن تقفز العين فوق بعض الكلمات أو أن تخلط بين حرف وآخر.
ولقد أثبتت تلك الدراسات كذلك أن حركة النظرة ليست أفقية ولا متناسقة. ولكنها تقفز قفزات مفاجئة ومتقطعة تفصل بينها وقفات قد تطول أو تقصر. ويتراوح طول هذه الوقفات بين ربع الثانية وثلثها. وهذه الوقفات هي ما يسمح لنا بإدراك الحروف. فخلال هذه الوقفات "تسجّل" العين سبعة أو ثمانية رموز وتستبق في نفس الوقت بقية الرموز "فتلقي نظرة" عليها بفضل محيط العين الجانبي.
ويسهل على القارئ إدراك رموز الخط بقدر ما يكون النص المقروء مؤلفاً من كلمات قصيرة مألوفة قديمة وسهلة ذات معانٍ متعددة. ومن جهة أخرى فإن قدرة الذاكرة المباشرة تتراوح بين ثمان كلمات وست عشرة كلمة. وهذا يعني أن أفضل الجمل تلاؤماً مع هذا الاستعداد الذهني الطبيعي هي الجمل القصيرة ذات البنية المتماسكة. ولقد لفت ريشودو النظر إلى أن إهمال الكاتب لشروط "المقروئية" العامة هذه قد يتسبب في أن ينزلق القارئ في سبل معانٍ كثيرة. وعندها لا يكون النص "المقروء" عين النص "المكتوب".
وانزلاق معنى النص ليس أمراً نادراً في ميدان الأدب. ولنذكر غموض الصوغ عند أبي تمام (779-845) أو وحشية مفرداته وما آلت من صعوبات شتى في التأويل. ولنذكر من بين معاصرينا أسلوب حيدر حيدر (سورية 1936) في روايته المضنية الزمن الموحش (1973) أو رواية ادوار خراط (مصر 1926) المعقدة رامة والتنين (1980).
إن هذا وحده يكفي للدلالة على أن فعل القراءة ذاته هو نشاط ذاتي إلى درجة بعيدة. وهكذا فإن القراءة تظهر، حين ننظر إليها من جانبها الفيزيائي العضوي، على أنها نشاط استباقٍ وتنظيم وتأويل.
1-2- القراءة نشاط معرفي
بعد أن ينظر القارئ إلى رموز الخط وبعد أن "يفكّها" يحاول عندها أن يفهم ما الأمر وعما يدور الحديث. إن تحويل الكلمات أو "رزم الكلمات" إلى عناصر ذات معنى يفترض أن يبذل القارئ جهداً كبيراً للتجريد.
وقد يظل فهم القارئ ضمن حده الأدنى، وهو يكتفي عندها بأن يرافق الأحداث الجارية أمام ناظريه. فينصب اهتمامه على توالي الأحداث وليس له من هم إلا أن يبلغ نهاية الكتاب وخاتمة وقائعه. وهو ما يحدث على الأغلب عندما نقرأ روايات بوليسية أو ذات لغز بوليسي كأعمال الكاتبة الانكليزية أجاتا كريستي (1891-...) أو عندما نقرأ روايات تعتمد المغامرة كعنصر جذاب كروايات جرجي زيدان (لبنان 1861- القاهرة 1914) التاريخية الانقلاب العثماني (1911) أو أسير المتمهدي (1892) مثلاً. وهو ما يحدث كذلك في النصوص الأدبية التي تبني حبكتها حول التشويق الغرامي كما في بعض روايات إحسان عبد القدوس (القاهرة 1919-1990) الناجحة (في بيتنا رجل، 1957).
ويقع نقيض ذلك حين يكون النص أصعب أو أعقد. فعندها يستطيع القارئ أن يهمل تعاقب الأحداث في سبيل تأويلها. فيتوقف عند هذا المقطع أو ذاك يُعمل فيه نظره ويسعى لإدراك كل معانيه المضمرة وكل تفسيراته الممكنة.
والحقيقة أن نشاط القراءة في النصوص الأولى يمضي قدماً في سبل الحبكة الروائية ومنعطفاتها. وهو لا ينظر إلا إلى رقعة النص وانتشارها. ولا يعبر اهتمامه قط لتراكيب اللغة وبنى جملها. فحين يقرأ أحدنا يوسف السباعي (القاهرة 1917- قبرص 1978) فإنه يقرأ بسرعة فائقة وإذا أهمل شيئاً من خطاب الكاتب فإنه بدون ريب لا يفقد شيئاً يعيق قراءته. وأما قراءة النصوص الأخرى فإنها لا تُفلت شيئاً وهي تتفحص كل شيء وتلتصق بنصها التصاقاً. فهي إذا صح القول قراءة مجتهدة ومتحمسة. وهي تطارد في كل نقطة من نقاط النص مهارة الفن وإتقان الصنعة. وهي تبحث باستمرار عما يربط أطراف الجملة ببعضها وعما يربط الجمل ببعضها وليس ما يربط وقائع الحبكة وأحداثها.
وبطبيعة الحال فإن هناك سبيلاً وسطاً بين السعي حثيثاً إلى نهاية الكتاب لمعرفة خاتمة الأحداث وبين القراءة المتأنية التي تهدف إلى فهم تفاصيله الدقيقة. ويمكن أن نجمع بين القراءتين بأن نأخذ من كل منهما بنصيب قد يكبر أو يصغر. ومهما يكن الأمر، وفي جميع الأحوال فإن عملية القراءة تتطلب كفاءة. ويفترض النص أن القارئ يمتلك حداً أدنى منها إذ يرغب بمتابعة القراءة.
1-3- القراءة نشاط عاطفي
تكمن جاذبية القراءة إلى درجة كبيرة في الأحاسيس التي تثيرها فينا. وإذا كان تلقي النص يعبئ عند قارئه ملكاته الفكرية فإنه يهيج كذلك، وربما على نحو أشد، نزعاته العاطفية. فالأحاسيس هي التي تقوم خلف مبدأ تقمص القارئ للشخصيات الروائية. وهذا المبدأ هو المحرك الأساسي لقراءة الأعمال المتخيلة. ولأن الشخصيات الروائية تثير استحساننا أو استنكارنا ولأنها توقظ فينا الغيرة أو الشفقة والمودة أو البغضاء فإننا نهتم بمصائرها ويشغل بالنا ما يقع لها من خير أو شر. ولقد أشار الناقد الروسي توماشفسكي Tomachevski ومنذ مطلع القرن العشرين إلى أهمية العواطف الأولى في "لعبة" النص. وكلما كبُرت موهبة الكاتب كلما كبرت صعوبتنا بأن نقاوم سيطرته على انفعالاتنا وكلما ازدادت كذلك قوة نصِّه على الإقناع. وقوة الإقناع هذه هي منبع افتتاننا بالنص الأدبي وسبب تأثرها به وذلك لأنها إحدى وسائل التعليم والتبشير.
ولقد أشار فرويد Freud كذلك إلى ضعف مقاومتنا العاطفية هذه. وكان يرى أنها سبب انخراطنا في عالم النص الروائي وهي بالتالي سبب العظة التي نستخلصها من تلك التجربة. وذلك لأننا جميعاً وعلى وجه العموم نظل سلبيين أمام شؤون الحياة اليومية وممتثلين لنتائجها. ولكننا نستكين لنداء الشاعر وهو يستطيع بفضل الحالة النفسية التي يثيرها فينا وعن طريق الآمال التي يلوِّح بها أمامنا أن يعبث بعواطفنا فيوجهها حيث يشاء.
ويسهل علينا أن ندرك أثر الانفعالات في نشاط القراءة. فأن نتعلق بشخصية روائية يعني أن نوجه أنظارنا إلى ما يقع لها. أي إلى الحكاية التي تُخرج الشخصية الروائية من فراغ العدم إلى عالم الوجود ثم تدفع بها إلى ساحة الحدث الروائي. ولأن وشائج عاطفية تربطنا بمصطفى سعيد فإننا نتابع قراءة رواية الطيب صالح (السودان 1929) موسم الهجرة إلى الشمال) (1965) ونهتم بالأسباب النفسية والاجتماعية التي قادته إلى الضياع. ولأن شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ (القاهرة 1911) جذابة ومنفرة، كريهة ومحبوبة تثير ابتسامتنا أو تهيج غضبنا فإننا نسافر راضين في كون الثلاثية (1956-1957) فنرضى في نفس الوقت بتصور العالم والفن الذي يتمثل من خلالها.
وإنه لمن الجلي أن عنصر التقمص هو واحد من أهم طرق القراءة وأكثرها شيوعاً بين القراء. وأن ارتباط القارئ العاطفي بالنص المقروء هو مكوِّن أساسي من مكوّنات القراءة وأنه سيبقى كذلك حتى زمن بعيد ولا شك. وعليه فإن استبعاد التماهي بين القارئ والشخصية الروائية وبالتالي استبعاد العنصر الانفعالي من التجربة الجمالية كما نادى بذلك بعض الكتّاب والمنظّرين المعاصرين هي محاولة قد حُكِم عليها مسبقاً بالإخفاق.
1-4-القراءة نشاطٌ حجاجي
وبما أن النص هو نتيجة إرادة الكاتب الخلاّقة الواعية ومجموعة عناصر منظّمة فإنه من الممكن دائماً أن نحلله على أنه خطاب. أي على أنه موقف يتخذه الكاتب من الكون ومن الكائنات ولا يعدّل من ذلك شيئاً أن يلجأ الكاتب في روايته إلى ضمير الغائب.
وإذا استخدمنا مصطلحات النظرية التداولية في النقد قلنا بأن النية في تعديل سلوك من يتوجه إليه الخطاب والتأثير عليه هي صفة لازمة في النصوص الروائية. فالسرد، أي ما يقوم به الحاكي حين يروي حكايته، يسعى إلى أن يقود المؤوِّل الغائب (أي القارئ الذي يقرأ النص المسرود) أو القارئ الحاضر (المستمع الذي يصغي للنص المروي) إلى تبني خاتمة ما أو إلى الإعراض عنها. ونية الإقناع هذه موجودة في كل حكاية سيان ظهرت واضحة جلية أم توارت عن عين القارئ المتسرّع.
وتظهر الوظيفة الحجاجية بوضوح في الروايات التي تنافح عن فكرة ما أو تدافع عن قضية محددة. كأغلب روايات حنا مينه التي تهدف إلى إقناع القارئ بصحة موقف الطبقات الكادحة السورية أو كبعض الروايات التي تريد تصوير فساد المدينة الجديدة كما في رواية عبد النبي حجازي (جيرود، سورية 1938) قارب الزمن الثقيل (1970) أو في رواية أحمد يوسف داوود (طرطوس سورية 1945) دمشق الجميلة (1977).
ولكننا نجد هذه الوظيفة كذلك في نصوص تنتمي إلى أنواع أدبية أخرى. فالجاحظ يحاول مثلاً في كتابه البخلاء أن يعدل من طريقة القارئ في النظر إلى مسألة الشح من خلال عرضه لوجهات نظر متباينة حول هذا الموضوع. فهو يترك سهل بن هارون وأبا يوسف الكندي يشرحان لنا كيف يكون البخل صلاحاً والشح اقتصاداً. ويكاد القارئ يوافقهما الرأي ويقرّهما على ما هما فيه. ثم يدعو أبو عثمان آخرين فيذمّون البخل ويظهرون مساوئه ويردون على حجج سهل بن هارون وصاحبه بحجج أخرى لا تقل عنها بلاغة ولا إقناعاً. ويصبح من الصعب بعدها على القارئ أن يطرح وجهة نظر هؤلاء كاملة ليتبنى رأي أولئك بمجموعه. فكل منظور يلغي الآخر. وكل طريقة لها ما يدعمها. وهكذا يقود أبو عثمان عمرو بن بحر قارئه قوداً هيّناً إلى غايته الأولى وإلى نيّته الأساسية. وهي نسبية الإحالة المرجعية وتعذّر تبني أحكام مطلقة.
ومهما يكن نوع النص الأدبي فإنه يدعو دائماً قارئه دعاء سافراً أو مستتراً بإلحاح قد يقوى أو يضعُف، إلى تبنّي موقف ما. ومع ذلك فللقارئ الحق بأن يأخذ بالحجج المطروحة أو أن يرميها، ويستطيع كذلك أن يرضى بالنقاش القائم أو يشيح عنه.
1-5- القراءة نشاط رمزي
إن المعنى الذي يستخلصه القارئ من قراءته (بردة أفعاله أمام القصة المسرودة، وبتأثره بالحجج المعروضة وبتعدد زوايا السرد والرواة) يمضي مباشرة ليتخذ مكاناً له في البيئة الثقافية التي يعيش فيها ذلك القارئ.
وكل قراءة تؤثر وتتأثر معاً بالثقافة وبالبنية السائدة في عصر ما وفي بيئة ما. وسيان أنكرت القراءة النماذج الفكرية المهيمنة في الخيال الجماعي أو عزّزت من مواقعها فإنها تؤثر بها فتؤكد بذلك بعدها الرمزي. ويكتسب المعنى الذي ترتديه قراءة ما في وسط ما أهميته بالنسبة لبقية أشياء العالم التي يألفها القارئ في ذلك الوسط. ويثبت هذا المعنى في خيال ذلك القارئ. وبما أن هذا القارئ ينتمي بالضرورة إلى مجموعة بشرية وإلى خيال جماعي تتميز به هذه الجماعة عن غيرها من الأقوام فإن المعنى الذي ثبت في خياله يرفد كذلك الخيال الجماعي.
وهكذا فإن القراءة الفردية تظهر هنا كجزء لا يتجزأ من ثقافة جماعية. ونحن نعرف الآن كيف أثّرت كتابات الثلث الأول من القرن العشرين تأثيراً كبيراً في تطوّر المجتمع العربي الثقافي. فإذا ذكرنا أن طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي (حلب، سورية 1848-1902) وتحرير المرأة لقاسم أمين (1865-1908) والشعر الجاهلي لطه حسين (المغاغة، مصر 1889-1973) ومسألة الحكم في الإسلام لعلي عبد الرزاق قد ظهرت جميعها بين عام 1900 وعام 1925 أدركنا كيف يمكن للقراءة أن تغير من الذهنية الاجتماعية خلال بضع سنوات!.
2- القراءة تواصل مؤخّر!
2-1- شروط فعالية القراءة
إن أهم ما تتميز به القراءة إذا ما قارناها بالمحادثة الشفهية هو أنها تواصل مؤجّل إلى حين. فالكاتب بعيد عن قارئه في أغلب الأحيان. ويفصل بينهما الزمان والمكان معاً. ولنتخيل قارئاً من دمشق يقرأ اليوم رسالة ابن المقفّع (ت756) في الأدب الكبير.
والعلاقة بين الكاتب (المرسل) وقارئه (المتلقّي) هي علاقة غير متوازية البتة. ولهذه الميزة بطبيعة الحال نتائج هامة.
إن المحادثة الشفهية تتلافى الغموض أو سوء الفهم عن طريق إحالات دائمة وفورية إلى الوسط المكاني والمحيط الزماني الذي يشترك به المتكلّمون أطراف المحادثة. غير أن النص المكتوب يقع بين يديّ القارئ مقطوعاً عن وسطه المكاني بعيداً عن محيطه الزماني وليس يشترك القارئ والكاتب في شبكة واحدة من المرجعية. فما يُحيل إليه أحدهما يجهله الآخر. وعليه فإن القارئ يتكئ على بنية النص، أي على نسيج علاقاته الداخلية، كي يخلق السياق العام الضروري لفهم النص المقروء.
وبينما يعتمد الحوار الشفهي القائم بين شخصين مثلاً اعتماداً مستمراً على الموقف الذي يجمعهما بصفته إطاراً يتم فيه التواصل بين الطرفين المتحاورين، فإن القارئ يدرك النص وكأنه موضوع مستقل قائم بذاته مغلق على نفسه.
فحين يلتقي رجلان مثلاً ويقول أحدهما للآخر:
-ذهبنا أمس لبرزة ورأينا صاحبنا.
فإن الآخر يدرك فوراً ما المقصود. برزة المدينة أم ضاحية برزة أم سوق برزة أم مدرسة معينة في برزة الخ.. ويعرف كذلك وبدون تردد ما المقصود بفعل (رأينا). هل كانوا جماعة أم أن المتحدث يستخدم ضمير الجمع للدلالة على شخصه الفريد. وهل رأى الآخر رؤية العين حقاً وبالصدفة أم رآه عن عمد ليطلب إليه شيئاً يعرفه الطرفان. أم أن اللقاء هذا كان غير متوقع ("صاحبنا" هذا كان غائباً) وبالتالي فإن المتكلم الأول يعلن للآخر عن دهشته.. الخ..
وليست "الرسالة" الأدبية المكتوبة كذلك. فهي إذ تُقْطَع من سياقها تغدو نظاماً داخلياً مُغلَقاً ليس لعناصره المكوِّنة من معنى إلا من خلال علاقاتها المشتركة بعضها ببعض. وبما أننا لا نستطيع أن نحيل هذا العنصر المُكوِّن أو ذاك إلى السياق العام (الذي نجهله) فإننا نتلمّس وظيفته في قلب البناء العام الذي هو العمل الأدبي الذي نقرؤه. ويتم الأمر وكأن النص الأدبي ينشئ بالنسبة لقارئه نظام مرجعيته الخاص.
وخصوصية التواصل الكتابي هذه ليست مثلبةً أبداً.
إن الخطاب الذي تحمله الحكاية مقطوع فعلاً عن الموقف المرجعي الذي تضمن معرفته الكاملة والدقيقة أن يتحقق الفعل اللغوي على نحوٍ كامل. ولكن هذا النقص البيّن لا يقضي أبداً على خطاب الحكاية بالفشل ولكنه يشكّل نقطة انطلاق لإدراك ما يتميز به هذا الخطاب إدراكاً أفضل. فما قصور وعجزٌ في خطاب وظيفته الأساسية أن يخبر عن شيء ليس كذلك في الخطاب الروائي الذي يهدف كما نعرف إلى غايات أخرى.
2-2- مقام النص المقروء
يستمد العمل الأدبي ثراءه بالتحديد من خاصية التواصل المُؤخّر التي تميز النص المكتوب. وبما أن تلقي العمل الأدبي يحدث خارج إطاره الأصلي فإنه ينفتح على أكثر من تأويل ويقبل أكثر من تفسير. ذلك أن كل قارئ جديد يحمل معه تجربته الخاصة وثقافته الفردية وقيم عصره وهمومه وينظر إلى النص من خلالها.
وهكذا رأى بعضهم في نصوص الجدل دفاعاً عن آراء الشعوبية وأهل التسوية أو تفنيداً لها والذي قام بين الجاحظ وابن قتيبة (828-889) وسهل بن هارون في القرن التاسع إرهاصاً بالقومية العربية وبالفكر القومي كما ظهرا في النصف الأول من القرن العشرين. وهكذا وجد بعض معاصري أبي العلاء المعري في رسالة الغفران إعلاناً عن الزندقة وخبث طوية أعمى المعرة. بينما يجد بعض معاصرينا في النصوص ذاتها صوغاً لشك منهجي سبق الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650) وتعبيراً عن نفسٍ معذّبة وقلقة.
إن المعنى في العمل المكتوب أكبر من الواقعة التي يقصها ويتجاوزها. بمعنى أنه يتحرر من صفة العرضية التي تميز الحديث الشفهي. فالكلمة تخرج من الشفتين ثم تختفي إلى الأبد. ولكن الكتاب ينقذ المعنى عن طريق أربعة أشياء.
فهو يصونه من الضياع عن طريق تثبيته كتابة.
وهو يعزله عن مؤلفه فيطلقه من نية الكاتب.
وهو ينتزعه من حدود موقف المحادثة الشفهية الضيقة فيفتحه على العالم الواسع.
وهو يرتقي به إلى الشمولية إذ يجعل له جمهوراً لا ينفذ من القراء على مرّ العصور.
إن هذه الصفات الأربع تُبرز بجلاء إمكانيات النص المكتوب الرائعة. فبينما يموت الخطاب الشفهي مع اندثار الصوت واختفائه، يظل الخطاب المكتوب قائماً على مرور الزمان. ولأن أبا عبيدة (728-825) والمفضّل الضبّي (ت780) وأبا عمر الشيباني (719-820) والأصمعي (740-828) قد جمعوا كتابة في القرنين الثامن والتاسع شعر طرفة بن العبد البكري الذي عاش في القرن السادس فإننا نصغي اليوم لنشيد الشاعر الجاهلي.
وإذ يفصم المكتوب الوشائج القوية التي تربط المتكلم بما يقول في موقف المحادثة الشفهية، فإنه يبيح للقارئ أن يرى في النص شيئاً آخر غير ما كان ينتويه كاتبه. وإن تنوع التأويلات التي تسمح بها مسرحيات شيكسبير (1564-1616) وتعددها يعود أساساً إلى أننا نجهل كل شيء أو نكاد عن شخصية المؤلف وحياته. وبما أن الكاتب ليس بعد بيننا فينكر علينا هذه القراءة أو ذلك التفسير فإن ميدان المعاني يمكن أن يمتد إلى غير نهاية!
وإذ ينفلت النص المكتوب من الموقف الخاص الذي تجري خلاله المحادثة الشفهية عادة والذي يحدّ منها فإنه يوسع أفق القارئ ويجعله مشرفاً على آفاق طريفة وعلى كون جديد. ومراجع هذا الكون الجديد غامضة وغائبة المعالم في أغلب الأحيان بالنسبة للقارئ فهو يجهل أكثرها أو أنه يراها على نحو مختلفٍ. فحين نقرأ اليوم كتاب الإمتاع والمؤانسة فإننا لا نكتشف في مسامراته دولة البويهين ولا أيام صمصام الدولة ولا وزارة أبي عبد الله الحسيْن بن أحمد كما كانت عليه تلك الدولة أو هاتيك الوزارة. وإنما سنكتشف فيها ما قد وصل إلينا منها خلال القرون العشرة التي تفصلنا عن مؤلّفها أبي حيّان التوحيدي (922-1023) أي مجموعة من الصفات المجرّدة التي عبرت تلك الأزمنة والتي يمكن لنا أن نشغلها رمزياً.
وإذ يستبدلُ النص العدد المحدود بالضرورة والذي يكوّنه المشاركون في المحادثة الشفهية بعدد يمكن ألا يتناهى من القراء فإنه يكتسب بعداً كونياً. وعليه فللقرآن الكريم وهو الكتاب تعريفاً قرّاءٌ من كل العصور، ومن كل أصقاع الأرض، ومن كل الأقوام على اختلاف منازلها.
إن انتزاع النص من سياقه هو، كما نرى، الشرط اللازم والضروري لتعدده.
2-3-هل كلّ قراءة مشروعة؟
إن لنا أن نتساءل، وقد رأينا ما يتميز به التواصل الأدبي على نحو خاص، إن لم يكن لكل الحق بأن يقرأ النص وبأن يؤوله كما يحلو له. وبما أنه يندر أن يُقرأ نص أخرج من سياقه كما أراد مؤلفه منه حين باشر في كتابته أفليس من المنطقي والأمر كذلك أن نعزف عن كل محاولة لاستخلاص نية الكاتب الأساسية وغايته التي أراد من مؤلّفه؟ أوليس من المنطقي أن لا نرى في النص إلا ما يحلو لنا أن نراه؟
لئن كان من الصعب أن نفرض تأويلاً وحيداً لنص ما فإنه، والحق يقال، يوجد معايير تثبت شرعية التأويل أو عدمها. وإن كان النص يجيز لنا قراءات كثيرة فإنه لا يأذن لنا أن نقرأ كما نشاء وكيفما اتفق حسب أهوائنا. إذ لو جاز لنا أن نقرأ ما نشاء في أي نص نشاء لتساوت النصوص جميعها ولاختفت الحدود بينها. ونحن نعرف بتجربتنا أن الأمر ليس كذلك البتة.
فلكي تكون القراءة مقبولة يجب عليها أن تلتزم بما يمكن أن نسميه بقاعدة التماسك الداخلي أي أن موضوعية النقد لا تقوم في اختيار مفتاح القراءة أو في انتقاء زاوية التأويل وإنما في تطبيق نموذج التأويل الذي يختاره الناقد تطبيقاً صارماً على كل النص المقروء.
ويمكن لنا أن نصوغ ذلك في ثلاث قواعد كبرى إن تمسك بها التأويل كان مقبولاً. يجب أن يكون من الممكن تطبيق شبكة التأويل أو نموذجه على مجموع العمل الأدبي وليس على بعض مقاطعه وحسب. ويجب أن تلتزم شبكة التأويل هذه بالمنطق الرمزي كما ظهر من خلال علوم التحليل النفسي. ويجب كذلك أن ينحو نموذج التأويل دائماً نفس الاتجاه. وبكلمة أخرى فإن التأويل يقاس بمقدار "صحته". أي ليس المقصود أن نستخلص من العمل الأدبي هذه الحقيقة أو تلك. ولكن المطلوب أن نتفحصه على ضوء "لغة" أخرى كلغة التحليل البنيوي أو لغة التحليل الواقعي أو الرمزي الخ..
وإلى مبدأ التماسك الداخلي هذا ينبغي علينا أن نضيف مبدأ التماسك الخارجي. فليس للقراءة أن تخالف شيئاً من المعطيات الموضوعية التي نعرفها عن النص وظروف تأليفه أو حياة الكاتب وعصره أو غير ذلك. فليس لنا مثلاً حين نقرأ الجاحظ ونؤول كتبه أن نتجاهل أنه كان معتزلياً وأنه عاصر المحنة التي قادها أصحابه حول موضوع خلق القرآن. وليس لنا أن نتجاهل حين نقرأ صدقي إسماعيل (إنطاكية، سورية 1924- دمشق1972) أنه كان مناضلاً بعثياً وأنه كتب رواية العصاة (1964) من خلال مفاهيم الحزب في الصراع ضد الاستعمار وتحليله للبنية الاجتماعية.
وعليه فليس لكل القراءات قيمة واحدة. وليس على التفسير أن يكون ممكناً أو محتملاً وحسب وإنما يجب أن يكون ممكناً أو محتملاً أكثر من بقية التفاسير الممكنة أو المحتملة.
فهناك معايير كذلك لتفضيل قراءة عن غيرها.
ولكن أكثر الأجوبة إقناعاً على مسألة التأويل وتعدد القراءات هو الجواب الذي يظهر من طريقة علم الدلالات في النظر للنص الأدبي. وهذا الجواب قائم على الواقعة التالية وهو أن النص يبرمج وإلى حد كبير كيفية تلقيه. أي أنه ليس باستطاعة القارئ أن يفعل بالنص ما يشاء ولا أن يؤوله كما يحلو له. فعليه نحو النص واجبات لغوية لا محيد عنها. وعليه أن يكتشف أحسن الاكتشاف التعليمات التي يتركها الكاتب منثورة هنا وهناك ضمن نصه. فإذا غابت عنه جميعها أو أكثرها أو أخل بها قاده ذلك إلى تأويلات خاطئة أو غير مقبولة.
وهناك مثل شهير على سوء التفاهم الأدبي هذا نأخذه من الأدب الفرنسي. فلقد كتب أوجين سو Eugene Sue (1804-1857) روايته المشهورة أسرار باريس وبدأ بنشرها على حلقات متسلسلة في عام 1842. وكان يتوجه بها إلى جمهور من القراء الميسورين ويهدف أن يقدّم لهم لوحات طريفة من أزقة باريس بغاية تسليتهم والترويح عنهم. ولكن بروليتاريا باريس فهمت الرواية على نحوٍ مختلف تماماً وتوهمت أنها إدانة شديدة لأوضاع حياتها البائسة وفضح لفقرها ودعوة سافرة للثورة.
وعندما أدرك أوجين سو أن عمّال باريس فهموا الحلقات الأولى من روايته على نقيض ما أراد حاول أن يقنعهم في الحلقات التالية أن معيشتهم ستتحسن بفضل الحركات السياسية الإصلاحية وعندما تمتثل الطبقة العاملة لإرادة الطبقات السائدة.
ولكن خطأ التأويل ظل قائماً وأدى إلى نتائج خطيرة. ولقد شوهد قراء أسرار باريس وهم ينصبون متاريس للثورة العمالية التي هزت العاصمة الفرنسية عام 1848. ولقد "تلاعب" قراء أوجين سو بنصه "وغشّوا" إذ قرؤوا رواية إصلاحية حقاً على أنها رواية تدعو إلى الثورة.
ليست القراءات كلها إذن مشروعة. وهناك فارق أساسي بين قراءة تستخدم النص أي تُكرهه على قول شيء ما وبين قراءة تؤول النص أي أنها تستجيب إلى ما يُبرمجه.
3- القراءة الساذجة والقراءة النقدية:
3-1- جمهور القراء الأوائل
ما هي القراءة التي ينبغي علينا أن نختارها موضوعاً للتحليل من بين كل القراءات التي يبيحها النص الأدبي؟ إن الألماني جوس H.R. Jauss يقترح أن نأخذ بعين الاعتبار القراءة الأولى التي استقبل بها النص حين ظهر للوجود. وموقف الناقد الألماني هذا يعود إلى رغبته بالحفاظ على موضوعية التاريخ الأدبي. فالوسيلة الوحيدة لإدخال دراسة التلقي ضمن مواضيع تاريخ الأدب هي أن نكشف النقاب عن التأويل الذي ساد بين القراء في العصر الذي نُشِر فيه النص للمرة الأولى.
كيف قُرئ كتاب زينب حين نشره محمد حسين هيكل (كفر غنام، مصر 1888- القاهرة 1956) باسم مستعار عام 1914؟. إن إعادة بناء ما يمكن أن نسميه بأفق الانتظار أو أفق التوقع الذي يحيط بجمهور القراء الأوائل يُنقذ، والحق يقال، التحليل الأدبي من الانغماس في تحليل نفسي مفرط يتهدده حين يتجاهل ذلك التأويل الأول. وإعادة بناء أفق الانتظار ذاك أو إطار الفهم العام الذي يتحكم بالقراءة ويوجهها أمر لا غنى عنه إذا شئنا أن نقيّم طرافة العمل الأدبي لحظة ظهوره وأن نفهم لماذا ترك هذا الأثر أو ذاك في ضمير القراء.
ويعرّف الناقد الألماني أفق التوقع بمعايير جمالية في الدرجة الأولى. ويمكن أن نلخصها بما يلي. معرفة جمهور القراء الأوائل بنوع التجربة الأدبية التي يقرؤها (رواية أو قصة صغيرة أو حكاية الخ..). وتجربة ذلك الجمهور الأدبية من خلال أعمال سابقة عوّدته على أشكال أدبية محددة وعلى مواضيع أدبية محددة تعالج على نحوٍ معين. وأخيراً الحدود التي يقيمها ذلك الجمهور بين اللغة الأدبية واللغة اليومية السائدة.
وعليه فإن دراسة تلقي "أول رواية عربية فنية" تطلب تذكيراً بالروايات التي كان قد اعتاد قراءتها القراء العرب في مطلع القرن العشرين من أمثال كتب نقولا حداد (لبنان 1872-القاهرة 1954) أو أحمد شوقي (القاهرة 1868-1932) أو زينب الفواز العاملية (صيدا، لبنان 1860- القاهرة 1914) أو طانيوس عبده (بيروت 1866-1932) وتحليلاً لما كان ينتظره هذا الجمهور من الرواية الجديدة ولما كان يتطلع إليه من مواضيع أكثر واقعية وألصق بحياته اليومية من كله نصيب لنقولا حداد (1903) أو من ورقة الآس لأحمد شوقي (1905) أو من الملك قورش لزينب الفوّاز (1905) أو من غرام واحتيال لطانيوس عبده. وإعادةُ بناء أفق الانتظار الذي وجّه قراءةَ زينب تفترض تحليلاً للغة العربيّة السائدة إذّ ذاك وتردّدها بين السجع والنثر في مقامات محمد المويلحي (1898-1900) أو في ليالي سطيح لحافظ إبراهيم (1906) وبين العربيّة الركيكة والعامية الطاغية في عذراء دنشواي لمحمود طاهر حقّي (1909) وبين العربيّة والعجمة في رواية أمين الريحاني (الفريكة، لبنان 1876-1940) خارج الحريم (1917).
إن تحليلاً دقيقاً لما استقبل به القرّاءُ رواية زينب حين ظهرت في مطلع القرن العشرين يفترض بالناقد أن يدرس هذه النقاط وأن يأخذها بعين الاعتبار.
وينبغي أن نلاحظَ أن البعدَ الاجتماعي غائبٌ عن أفق التوقّع كما يُعرّفه جوس. وأنّ هذا الأخير يهمل أصلَ القيم الجماليّةِ الاجتماعيَّ. وهذا يعني أنّ على دارس زينب أن يعير اهتمامه كذلك لأخلاق القرّاء العرب المصريّين في بداية هذا القرن ولنظرتهم إلى العلاقة بين الرجل والمرأة ولمعرفتهم أو لجهلهم بالريف وبأهله وعاداتهم.
ومهما يكن الأمر فإن تحليل الناقد الألمانيّ تحليلٌ تاريخيٌّ. وإذا أهملنا جمهورَ النصِّ الأوائل أي إذا أهملنا مجموعَ القرّاء العاديين فإننا لن نفهمَ البتّةَ ما صار إليه هذا العمل الأدبيّ أو ذاك ولن نفهمَ أبداً تطوُّرَ الأدبِ ولا تاريخ الأنواع الأدبيّة.
3-2-القراءة الخطيّة.
إن الانتقالَ من نظرية التلقي كما صاغها منظّرو مدرسة كونستانس والتي تخضع للمنظور التاريخيّ إلى مختلف نظريّات دلاليّة القراءة والتأويل التي تولي عنايتها للبنيّة النصيّة يعني أن تُطرَح المسألةُ من جديد وبمفردات مختلفة.
والأمر أنه ما إن يبدأ الناقد بكشف النقاب عن سبل القراءة الكامنة في النص حتى يضع خيارُه النظريّ الجوهريُّ وجهاً لوجهٍ القراءةَ "الساذجة" والقراءة "العارفة" أو القراءة "ذات الخبرة". ونقصد بالقراءة الساذجة تلك التي تلتزم بمسيرة الكتاب الخطيّة الأفقية. وأما القراءة العارفة أو ذات الخبرة ففيها يوظِّف القارئُ معرفته العميقة بالنص والتي نتجت عن قراءةٍ سابقةٍ لذات النصِّ فيروح يقرأ الصفحات الأولى من النص على ضوء ما يعرفه من خاتمة الكتاب.
إنّ القراءة "الساذجة" هي أكثر القراءتين شيوعاً ولا ريب. والنصُّ الأدبيُّ يكتَبُ كي يُقرأَ وهو ينمو مع الزمن. ولابدّ من الأخذ بعين الاعتبار بهذه النقطة الأساسية إذا أردنا أن نفهم كيف يعمل النص.
ولنأخذ على سبيل المثال رواية نجيب محفوظ اللصّ والكلاب (1961) لإيضاح ما نقصده. إن الرغبةَ بالانتقام هي حافزُ سعيد مهران الشخصية الأولى وما يفسر أغلب ما يأتي به. ومعرفة القارئ بهذا تثير تطلُّعَه وتدفعه إلى متابعة القراءة. وككلّ فنانٍ ماهر يتقن صنعته يرمي نجيب محفوظ ببطله، وبقارئه كذلك، ومنذ الصفحات الأولى في قلب المغامرة. ومنذ السطور الأولى يشير إلى من سيلاحقهما سعيد مهران بكراهيته ويصبُّ عليهما جام غضبه، نبويّة زوجته الخائنة وعليش صديقه الغادر.
وكلّما خُيّلَ لسعيد مهران وبالتالي للقارئ أن لحظة الانتقام قد أزفت كلما دفع بها الكاتب إلى أجلٍ آخر. فمن الواضح أن عقاب الخائنْينِ سيعني نهاية الرواية. وعليه فإن هذا العقاب يجب أن يقعَ في صفحات الكتاب الأخيرة. ولكن إيهام القارئ بشيءٍ ثم إظهار غيره وسيلةٌ ناجعةٌ لإبقاء تطلُّعه يقظاً ورغبته في معرفة الخاتمة شديدةً.
ففي الفصل السابع مثلاً، أي في منتصف الرواية تقريباً، يُطلق سعيد النار على عليش من خلال بابٍ مغلقٍ ويحسب أنه قد نال مأربه وأنه قد أوقع بالخائن ما يستحقه. وكذلك القارئ الذي يرى الأحداث من خلال عينيْ البطل فإنه يشاطره ذلك الوهم ويؤمن أن جزءاً من خطّة البطل قد تحقق.
ولكن يقظة القارئ تتضاعف وفضوله يشتدُّ حين يكتشف في الفصل الثامن أن القتيل لم يكن عليش وأن قوى الأمن تلاحق بطل الرواية بتهمة القتل. وهذا تطوّر مفاجئٌ في الرواية يُعقّد أحداثها ويضيفُ إليها بعداً عاطفيّاً جديداً وهو بالتالي يضاعف من رغبة القارئ في معرفة ما سيأتي.
إنّ تلاعب النصِّ بالقارئ وبأعصابه وهو من أجمل مفاتن القراءة قائمٌ بأكمله على أفقيّة السرد وعلى "خطيّة" القراءة. ولولا القراءة الساذجة لفقد القارئ كثيراً من متعة القراءة وسحرها.
3-3-القراءة الثانية.
إن كانت القراءةُ الأفقية هي أقربُ أشكال القراءة من طبيعتها وأكثرها احتراماً لأصول تنظيمها فإنها ليست أغناها ولا أكثرها أهميّةً. وليس تتابع الأحداث هو صفة الحكاية الوحيدة.
وليس النصُّ الأدبيُّ سطحاً أو خطاً مستمراً وحسب ولكنّه "كتلةٌ" لا تظهرُ الوشائجُ القائمةُ بين أطرافها ولا طبيعةُ العلاقةِ بين هذه الحادثة السرديّة وتلك أو بين هذا المقطع وذاك إلاّ عقب قراءة ثانيةٍ. وعليه فإن تكرار القراءة هو أكثر ما ينسجم مع النصوص الأدبية المعقدة.
إنّ شرحَ النصوص الأدبيّة شرحاً مفصّلاً وهو ألف باء الدراسات النقديّة كما يمارسُه المدّرسون والنقّادُ ومحترفو الأدبِ يجعلهم يُدركون أنّ إعادةَ القراءة ليست نشاطاً عابراً أو جزئيّاً كما يحدثُ مثلاً حين يلجأ إليها القارئُ بسبب شرودهِ أو ضعفِ انتباهه عند القراءة الأولى. وهم يعرفون كذلك أن إعادة القراءة ليست كذلك نشاطاً منهجياً شاملاً ولكن محصوراً بالهواة ذوّاقةِ الأدبِ. إن خبرتهم تجعلهم يتساءلون إن لم تكن القراءةُ الثانيةُ أمراً لابد منه على الإطلاق خلال القراءةِ العاديّة نفسها لإدراك الرواية إدراكاً شاملاً. ولابد من معرفة بعض التفاصيل التي لا نستطيع رؤيتها إلاّ عقيْب القراءة لفهم المقصود من هذا المقطع أو ذاك. نحن نرى في الفصل الأول، بل في الصفحات الأولى من عصفور من الشرق (1938) شابّاً يأكلُ بلحاً في شوارع باريس ويلفظُ نواتها تحت مطرٍ عارمٍ ويتخيّلُ نفسه في ميدان المسجد بحيِّ السّيدة زينب وهو يتخيل أن نافورة ميدان الكوميدي فرانسيز هي سبيل مسجد السيّدة. ولن يتذوّق القارئُ تمام التذوّق هذا المشهد إلاّ إن كان يعرِفُ أنّ هذا الشاب هو مصريٌّ وأنّ السيدة زينب هي رمزُ الطهارةِ والقدسية، وأن براءةَ المسجد هي التي ستنقذُه من تدهورِه الأخلاقيّ وأنّ الفنّ الذي يرمز إليه الكوميدي فرانسيز سيكون ملجأه وبرجه العاجي بعد مغامرته العاطفية. وهذه التفاصيل لن يعرفها القارئ إلاّ في الفصول التالية من الرواية. وعليه أن يعود ثانية إلى الوراء أو أن يعيد قراءة الفصول الأولى كي يربطَ هذا بذاك وأوّلها بآخرها. وكذلك عنوان الرواية، وهو لقبُ البطل أيضاً، لن يستوعبه القارئُ إلاّ إذا كان يعرفُ أن الشرقَ هو رمزُ الروحانيّةِ والبُعدِ عن الماديّة الغليظةِ التي تميّز أوروبا كما سيقول توفيق الحكيم (الإسكندريّة، مصر 1898- القاهرة 1987) فيما سيأتي من صفحات الرواية.
إنّ كلّ هذه العناصر المثقلة بالمعاني (عنوان الرواية وإهداؤها: إلى حاميتي الطاهرة السيّدة زينب، والفصلُ الأولُ) لا يمكن فهمها على حقيقتها إلا إذا كنّا نعرف "سلفاً" ماذا سيحدث. أي بعد قراءةٍ ثانيةٍ. ليست إعادةُ القراءةِ أمراً مستحباً وحسب حين نقرأُ روايةً ذات حدٍّ أدنى من الفنيّةِ، ولكنها ضرورةٌ لازمة.