شعرية ما بعد السبعينيات و استحضار المرجعيات المغيّبة في النص الشعري الجزائري المعاصر
بقلم : عبد القادر رابحي
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 198 مرة ]
ملخص: بلورت المرحلة السبعينية من القرن الماضي العديد من الإحداثيات الفكرية والسياسية و الإيديولوجية التي ستكون محل اهتمام جل المثقفين الجزائريين في فترة الثمانينيات تحديدا، نظرا لما وفرته هذه الفترة من انفتاح سياسي و ثقافي أدى إلى إعادة استحضار الأطروحات المغيبة عن الساحة الثقافية منذ فترة الاستقلال زمنيا، و عن المواثيق السياسية و التنظيمية للدولة الوطنية على المستوى الإيديولوجي. وتحاول هذه الورقة أن تترصد بعض هذه الإحداثيات المغيبة عن الخطاب الثقافي الجزائري طيلة المرحلة السبعينية، و مدى تأثيرها في صياغة وعي حَداثي مختلف لدى الشعراء الجزائريين الذين عايشوا هذه الفترة. و هو الوعي الذي مكنهم من صياغة نص شعري مختلف عما كان يطبع المدونة الشعرية الجزائرية من نمطية فكرية و جمالية مرتبطة بالطرح الإيديولوجي السائد في الفترة السبعينية. 1-الوعي بالحداثة و استحضار الطرح المغيّب: يلاحظ الدارس للمدونة الشعرية الجزائرية في فترة ما بعد السبعينيات أن معْلمَين أساسيين اثنين حدّدا مرحلة الثمانينيات في تاريخيتها، و أسسا- بناء على ذلك - لحركية الانفصال الإيديولوجي و الثقافي عن المرحلة السبعينية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. و هذان المعلمان هما: أ- بداية أفول نجم المرحلة السبعينية برؤيتها الإيديولوجية اليسارية، بوفاة الرئيس الراحل هواري بومدين في نهاية السبعينيات(*). ب- تجلّي الصراع الإيديولوجي في أقصى مظاهره المصحوبة بالعنف من خلال ما سمّي بأحداث أكتوبر 1988، و تحول إشكالات الصراع الإيديولوجي و السياسي إلى مواجهات بين النظام السياسي المأزوم و الشارع لأول مرّة في تاريخ الجزائر المستقلّة (**). و يبدو المعلم الأول واضحا في الإشارة إلى انتهاء المرحلة البومديينية بوفاة الرئيس الراحل هواري بومدين في نهاية السبعينيات، و من ثمة انتهاء المشروع الذي كان يحمله، عن التصورات الذاتية و الموضوعية الخاصة بمستقبل الجزائر الثقافي -على الأقل من الناحية النظرية-. و ذلك على الرغم من استغلال التيارات الإيديولوجية و الفكرية المنضوية تحت الجهاز التنظيمي للعام للحزب الواحد، لأفكار هذا المشروع من أجل الحفاظ على مواقعها و توسيع دائرة تأثيرات رؤيتها السياسية في مستقبل الممارسة الإيديولوجية و من ثمة التأثير على الخطاب الثقافي وتجلياته الإبداعية. و نخص هنا بالذكر التيار اليساري القريب من السلطة الذي بدا في المرحلة السبعينية أكثر تطرفا و إلحاحا في تطبيق رؤيته من الأفكار التي كان يحملها المشروع البومدييني نفسه حول العدالة الاجتماعية و المساواة و الحرية و تكافؤ الفرص بوصفها واجهة إيثارية تبريرية تغطي الرؤية الإيديولوجية و مصلحيتها. و هي قيم طالما نادت بها المرحلة البومديينية و حاولت أن تطبقها على مستوى الواقع المُعاش، و لكن بتفاوت كبير بين ما كانت ترجوه رؤيتها و ما كان يريده التيار اليساري الضاغط. و قد تجلّى ذلك من خلال استغلال هذه القيم من أجل تمرير أنموذج تسييري للأنماط الاجتماعية و الثقافية لا يمت بصلة إلى بنية المجتمع الجزائري و لا يراعي جذور مكوّناته الاجتماعية و الثقافية. كما أدى إلى نمذجة الخطاب الثقافي في الانجازات المُحققَة على مستوى التحولات التي شهدها المجتمع في بنيته الفلاحية الرعوية خاصة، و إعادة هيكلة بنية المجتمع الثقافية من خلال كسر النسيج الاجتماعي البسيط الذي كان يحافظ على جذوره الثقافية على الرغم من توارثه لمعطياته السلبية من فترة الاستعمار الفرنسي. ففي حين كانت الطبقة المُسيَّسة و المثقفة الواعية بعمق هذه التحولات وخطورتها تحاول أن تحافظ على مصالحها الاجتماعية و مكاسبها الثقافية من خلال التكوين الجيد باللغة الفرنسية و التخصصات المُربحة لأبنائها- وهي طبقة قليلة أتاح لها تكوين فترة ما قبل الاستقلال وعيَها بضرورة التموقع و استباق حركة التغيير القادمة -، كانت الطبقات الفقيرة من عامة أبناء الشعب و غالبيته المسحوقة تخضع لحركة تجريب إيديولوجية طالت بنياتها الثقافية و مرجعياتها الدينية، ومساحتها الجغرافية، من خلال الدخول الإجباري كـ'عيّنات تجربة' في المخبر الإيديولوجي للفترة السبعينية الذي أخضعها لحتمية التحول الاجتماعي بتفكيك نسيجه الريفي الطبيعي، و تحويله إلى 'قُرى اشتراكية' و'غلوكوزات' تُسيّرُ بتقنيات مستوردة. كما طالت حركة التجريب الإيديولوجية عمّال المدن، إلى طبقة عُمّالية خاضعة للرؤية التحديثية التي كانت تتبناها السلطة من خلال ما كانت تصوّره على أنه إنجازات ضخمة كالمصانع و المعامل و الوحدات الإنتاجية، و ذلك على الرغم من ضعف تكوينهم الثقافي و ضعف فرص تعلميهم نظرا للفترة الاستعمارية. و قد كانت هذه المحاولة تبدو في جوهرها، بالنسبة للرأي المُخالف، فعلا سياسيا و إيديولوجيا مُتعمَدًا يعمد إلى كسر الحراك الثوري الذي توارثه المجتمع الجزائري منذ الفترة الاستعمارية وتحويل فاعليته عن المجرى الحقيقي الذي طبع بنية المجتمع الجزائري و هو يحاول أن يقف في وجه الاستنبات القسري للهويّات المستوردة منذ العهد التركي. وقد ولّدت تجربة الكسر(1) الثقافي و الحضاري التي أنتجتها الطريقة المصلحية الانتقائية في تسيير هوية الأمة و 'وضع اليد الإيديولوجية' على كتابة تاريخها بمختلف توجهاته و تعدد أبعاده، إلى تعميق المفارقات التاريخية على مستوى الخطاب الثقافي في مخيلة مثقفي ما بعد السبعينيات و شعرائها. كما أدى هذا الكسر إلى كسر آخر أكثر خطورة في تصور رؤية منسجمة مع نفسها للمشروع الثقافي الذي يجب أن يكون عليه مستقبل الجزائر. " و الحق فإنّ عجز السلطة عن إيجاد حلول مناسبة ليس فقط لمشكل الهوية كجزء من المشكلة الثقافية، بل عجزها عن إيجاد حلول لعديد من المشكلات السياسية و الاقتصادية كان السبب الأساسي في ظهور العنف المادي و الرمزي بشكل مباغت، وبطريقة تجاوزت كل معقولية ممكنة"(2). و من هنا فإن مشكلة الهوية بوصفها جزءً لا يتجزأ من المشكلة الثقافية الشاملة ظهرت بصورة جليّة من خلال مسألة الرفض المبدئي لهذا المشروع من طرف المثقفين الجزائريين الذين كانوا يحملون رؤية فكرية و ثقافية مختلفة. و هو رفض ينم عن عمق الكسر الذي كان سائدا في البنية الثقافية للمجتمع الجزائري في فترة ما بعد الاستقلال و التي يسميها عبد القادر جغلول بـ "عصر الارتباك"(3). و قد تجلت مسألة رفض المشروع السبعيني على مستويات ثلاثة نعتبرها أساسية في تشكيل الوعي الآخر بتحديث الأسس الفكرية و الثقافية وفق نظرة أكثر انسجاما مع المنابع الحضارية للمجتمع الجزائري حتى وإن بدت مختلفة في تعبيرها عن الأفكار و الآليات الكفيلة بتطبيقها. و إذا كانت مستويات الوعي البديل هذه تعبر عن شريحة واسعة من السياسيين و المثقفين ممن لم يجدوا مساحة للتعبير عن أفكارهم في الفترة السبعينية، فإننا سنكتفي بذكر نماذج تمثيلية لهذا الطرح تعبر عمّا عاناه المثقف في صياغة المشروع الحداثي البديل و في تمرير الأفكار الأساسية لرؤيته بمختلف توجهاتها داخل المنظومة الفكرية والثقافية لفترة السبعينيات. و هذه المستويات هي: أ- مستوى الطرح الفكري الفلسفي كما هو الحال في كتابات و مواقف مالك بن نبي(4). ب- مستوى الطرح الديني و الحضاري كما هو الحال في كتابات و مواقف البشير الإبراهيمي(5). ج- مستوى الطرح الثقافي و الإبداعي كما هو الحال في أشعار و مواقف مفدي زكريا(6). و تدلّ هذه النماذج على تصورات الطرح المغيّب عن عمق المساءلة الفكرية و الثقافية، حتى و إن كانت أفكار أصحابها ليست بالغريبة تماما عن واقع هذه المساءلة. كما أنها لا تزال تدلّ إلى اليوم على الجرح الثقافي و الحضاري الذي عمّقته الرؤية الانتهازية لفترة ما بعد الاستقلال ولمّا يبُحْ بعدُ بكلِّ أسراره. و إلا كيف يمكننا تفسير حضورها في جوهر المساءلة الإبداعية لشعراء ما بعد السبعينيات من خلال محاولاتهم طرحها مرجعيةً جديدة و طرح إحداثياتها المغيبة بديلا للمرجعية الفكرية المسيطرة على النص الشعري السبعيني بكل ما تحمله من ثقل إيديولوجي، و التي كان شعراؤها المعربون و المفرنسون(7) يتباهون باستعمالها من أجل تحقيق الحلم "بعالم المساواة، عالم السلم، عالم الجمال و الحرية، عالم تسوده العدالة، وتصبح فيه الاشتراكية حقيقة ملموسة و ليس شعارا"(8). و لئن كان شعراء ما بعد السبعينيات نتاجا حتميا لجوانب التحديث الإيجابية في فترة السبعينيات نظرا لما أتاحته لهم هذه الفترة من تعليم مجاني و تكافؤ فرصٍ مكنهم الوصول إلى مراحل متقدمة من التكوين الجامعي - وهذا من الإفرازات الإيجابية لهذه المرحلة التي لا يجب إنكارها أو المرور عليها مرور الكرام-، فإنه من الواجب الإقرار بأنهم كانوا نتاجا لجوانبها السلبية كذلك، من خلال ما عرفته من إفرازات على مستوى ما ذكرناه سالفا من صراعات سياسية و ثقافية اعتمدت على تغييب الرأي الآخر، و من وعيهم لتناقضات المرحلة التي تربّوا فيها و الرؤية التي استقوا منها تكوينهم الثقافي و الفكري. إن الحق في اكتشاف هؤلاء الشعراء للتناقضات التي أفرزتها هذه المرحلة بصراعاتها الفكرية و الثقافية لم يكن أمرا ضروريا فحسب، و إنما كان أمرا حتميا فرضته طبيعة هذه التناقضات في تجلياتها الثقافية و انعكاس هذه التجليات على الرؤية التي كان يجب أن يحملوها عن ماضي الجزائر الثقافي القريب منهم، و عن معالم مستقبله. ذلك أننا سنجد معالم المساءلة الجوهرية لهذه التناقضات واضحة في نصوصهم الشعرية، لا على مستوى المضامين التي كان لابد أن تنظر إلى إنجازات المرحلة السبعينية برؤية مختلفة و تحاول تجميع (شظايا الانتماء)(9) و الـ (تأمل في وجه الثورة)(10) برؤية تحاول أن تقتنع "بجرح الطريق"(11)وتعمد إلى مكاشفة "قلب الحرائق بالورد و الأقحوان"(12)، وإنما على مستوى الأشكال الكتابية و تجليات أنساقها الدلالية في البنيات النصية من خلال إعادة صياغة النص الشعري صياغة تعتمد على الترميز من أجل تمرير الموقف و الـ"إعلان عن هوية"(13) الذات الشاعرة في زمن الانقلاب على القيم الفكرية والجمالية حيث: صار نوفمبر الحب و الاغتراب و صار الكلاب أسودا.. و أضحى الأسود كلاب..(14) . و كان لابد لهؤلاء الشعراء أن يضعوا في عين الاعتبار مجمل هذه الإشكالات من أجل التأكيد على مساحة الاختلاف و تحقيق هامش الخصوصية الذي يعبر عن التغيرات التي عايشوها. 2-جدلية الفكرة و حتمية التحديث الشعري: أما المعلم الثاني الذي يحدد فترة الثمانينيات بوصفها مرحلة انتقالية في البنيات الثقافية و الإيديولوجية للمجتمع، فهو المعلم الأساسي الحاضر في تاريخ الجزائر المعاصر، و التي عادة ما وصفت بـ (أحداث أكتوبر1988) و وصل فيها المجتمع الجزائري إلى مرحلة متقدمة من التأزم في الصراع بين المواقف السياسية وانعكاسها على المشاريع الثقافية، و تجلي أيقوناتها المغيبة بصورة واضحة إن على مستوى الكتابات السياسية و الفكرية، أو على مستوى الحراك الثقافي الذي كانت تشهده الجامعة الجزائرية بوصفها حاضنة مكوّنة لهؤلاء الشعراء خصوصا، و تنامي صراعاتِ توجهاتِ طلبتِها بين المتخندقين في صفوف الخلايا اليسارية العاملة تحت غطاء التنظيمات الطلابية الرسمية التي كانت تستمد شرعية نشاطها من جناح السلطة الداعم لها، و بين المتخندقين في التنظيمات الإسلامية المتموقعة في المساجد والأحياء الجامعية، والباحثة عن شرعية من خلال سياسة الأمر الواقع. لقد كان للصراع الإيديولوجي و الثقافي الذي شهدته مرحلة الثمانينيات، خاصة بالنسبة للشعراء الذين صادف تعليمهم في هذه المرحلة بالذات، أثرٌ بارزٌ في تحول النظر لمساحة الصراع الثقافي إلى وجهة تحاول أن تدرك مساءلاتها الجوهرية و تبني لها موقفا منها. و لعلّ النقاشات السياسية و الفكرية المبطّنة بغطاء اللبوس الثقافي و النشاط العلمي قد لعبت دورا أساسيا في تأجيج مساحة الصراع و بلورة المفاهيم و المواقف التي كان يجب على الأطراف تبريرها بمبررات تريد أن تعيد إشكاليات الهوية الوطنية و التعريب و الانتماء الحضاري و الموقف من المذاهب الإيديولوجية المستوردة، و ثنائيات التقليد و التجديد و القِدم و الحداثة والأصالة والمعاصرة. و قد وجدت الأطراف المتصارعة في هذه النقاشات فرصة سانحة لتدلي بوجهة نظرها فيما يخص أساليب التحديث الإبداعي و الفكري بناء على مواقفها من هذه الثنائيات. ولطالما كان شعراء هذه المرحلة و مبدعوها يحاولون ربط طرائق الإبداع وتجلياتها الشكلية و الدلالية بمواقف أصحابها، فيكون التجديد في الشكل الشعري بالنسبة لأحدهم موقفا من أحد أطراف هذه الثنائيات التي سيطرت على الخطاب الثقافي في الثمانينيات، و العكس صحيح. و لو تمعنّا في أساسات التغيرات الثقافية في هذه المرحلة بعين فاحصة ومقاربة هادئة، لوجدنا أنها من أهم مراحل التاريخ الثقافي للدولة الجزائرية المستقلة نظرا لما سبقها من جوٍّ مُغلقٍ على مستوى الممارسة الثقافية قبل سنة 1978، و لما لحقها من جوّ مفتوح على كل الاحتمالات قبيل أكتوبر 1988 و بعده. و مثلما كان ضياع فلسطين في 1948 وهزيمة حزيران 1967 مَعْلَمَيْنِ أساسيين في المشرق العربي أثناء مرحلة الانتقال الإبداعي و تشكيل المنابع الضرورية للخوض في إشكاليات التجريب الإبداعي عموما و الشعري على الخصوص(15)، نظرا لما لهما من دلالات في التأثير على الوعي الجمعي للطبقة المثقفة من خلال إعادة طرح المساءلات المتعلقة بالوجود و المصير، فإن المَعْلَمين التاريخيين السابقين بالنسبة للجزائر قد لعبا دورا أساسيا في تشكيل رؤية جديدة استطاع من خلالها المبدعون عموما و الشعراء على الخصوص، بمختلف مستويات تكوينهم و وعيهم بعمق هذه التحولات، أن يعبروا عن الحاجة الملحة إلى التغيير على مستوى الخطاب الإبداعي عموما و الشعري على الخصوص. و حتى و إن كان وجه الشبه بالنسبة للحالة المشرقية لا ينطلي على الحالة الجزائرية من حيث الأبعاد السياسية و التاريخية، فإنه لابد من الإقرار بأن الآثار التي خلفها المعلم المشرقي في البنية الثقافية للمجتمع العربي- والجزائر من ضمنها- قد كان له تأثير بارز على محاولتهم إعادة صياغة الرؤية التي كان يحملها هؤلاء الشعراء عن الكتابة الإبداعية و إشكاليات التجريب الشعري التي تغير بموجبها الخطاب الشعري من خلال التأسيس لذاتٍ شعريةٍ و معرفيةٍ تتحسس الإشارات الجمالية و الدلالية لطبيعة المرحلة التاريخية، و تعيد صياغتها وفق الرؤية الآنية لحداثة الممارسة الشعرية. نقول ذلك، لأنه لا يمكن أن نتصور فهما عميقا للنص الشعري لشعراء ما بعد السبعينيات من دون التوقف عند الجذور الاجتماعية و التكوينية لهؤلاء الشعراء ومعرفة مدى تأثيرها على تغيّر بنية النص الشعري، نظرا لما أتاحته من مبررات فكرية و معرفية ومسوغات نفسية، تنبئ عن مدى إدراكهم الرؤية المعرفية التي تحدد علاقتهم بعوالم الشعرية المعاصرة، و تمكنهم من الانتقال بإشكاليات التجريب إلى آفاق جديدة. ذلك" أنّ الذات في فضاء الشعر - وتحديدا الحديث - إنّما هو حضور ذات إدراكيّة. إنّ مسألة الذاتيّة تظلّ شرط إمكان المشاركة في كونيّة الأدب، باعتبارها مشاركة تقتضي إسهاما معرفيّا"(16). و يبدو من خلال التمعن في دواوين شعراء ما بعد السبعينيات الصادرة في هذه الفترة، أن الرغبة في بلورة هذه الذات من حيث طرحها لأنموذج الكتابة الشعرية المختلف عن سابقه فيما تغاير معه به، و الراغب في تجاوز ما تَشَاكَلَ معه فيه، ليس وليد صدفة حداثية أتاح لها حِراكُها المرحلي التمظهُر باللبوس الذي ظهرت به فحسب، و إنما هو نتيجة البنية المُكوِّنة للجذور الاجتماعية و الثقافية لهؤلاء الشعراء و ما لحقها من تغيّرات جذرية على مستوى الأنساق المعرفية المُؤسِّسَة لهذه الذات. لقد أدى فشل المشاريع التنموية في هذه المرحلة إلى الإصرار العنيف على الجانب الثقافي الذي أُقْصِيَ ممّا سُمي بالثورات الثلاث (الزراعية والصناعية والثقافية) التي بنت عليها الرؤية النظرية للمرحلة السبعينية تطبيقاتها على مستوى الواقع الاجتماعي. ذلك "أن العنف ارتبط بالثقافة الجزائرية، و أنه قد تم امتداحه في الخطاب الوطني و خاصة بعد نجاح حرب التحرير الوطنية، و إن السلطة الوطنية قد تأسست على العنف وعملت على التغيير العنيف من خلال شعار ثوراتها الثلاث الزراعية و الصناعية و الثقافية"(17). و إذا كانت الثورة الزراعية و الثورة الصناعية و هما تستحوذان على اهتمام المشروع البومدييني قد وجدتا لهما طريق التطبيق فيما ذكرناه سابقا حتى و إن فشلتا في إفراز نوع من التوازن الاجتماعي داخل البنية المدمرة الموروثة من الفترة الكولونيالية، فإن ترك الثورة الثقافية جانبا بطريقة مُتعمَّدة وأكيدة، أدى إلى تجلي الرؤية العنيفة للصراع بين منظومتين معرفيتين تتجاذبان الحراك الاجتماعي و تَسُوقانه إلى معالم ثقافية تحمل في عمق أطروحاتها الفكرية والإبداعية العناصرَ الاستشرافية الأولى الدالّة على عنف التصور في طرح معالم الهوية الوطنية وعنف الممارسة الثقافية في الحجاج على صدق هذه التصورات أو على زيفها. و يبدو جليًّا مع بداية تقادم هذه المرحلة التاريخية، بأن ترك الثورة الثقافية جانبا إنما كان ينمُّ عن سيطرة شمولية الرؤية الفكرية و الإيديولوجية للمرحلة السبعينية، و تجلي هشاشة تصورها للبناء الثفافي لجزائر ما بعد الاستقلال، مما حدا بها إلى تحويل (Transfert) إشكاليات عناصره العالقة منذ فترة ما قبل الاستقلال إلى مثقفي ما بعد السبعينيات، لا بوصفها إرثاً لم تقدر على تحمّل مسؤولياتِ طرحِهِ بصورةٍ جليّةٍ فحسب، و إنما بوصفها عقدة معرفية و إشكالا إيديولوجيا قابلا لمعاودة الظهور بطرق أكثر إلحاحا في أية لحظة. و لعل هذا ما أدى بشعراء هذا الجيل إلى البحث عن عناصر الهوية الشعرية من خلال البحث عن عناصر الهوية الوطنية والانتماء الحضاري. و كأن الإشكال الحقيقي الذي سيواجهه هذا الجيل إنما هو مشكلة الهوية لا بوصفها إرثا سياسيا و حضاريا يجب التخلص من تبعاته السلبية فقط، و لكن بوصفها عقدة وجودية تنطلي إشكالاتها الفلسفية على المسار الوجودي لهؤلاء الشعراء و هم يحاولون البحث عن مكان يسع تساؤلاتهم الموروثة. "ذلك أننا عندما نأتي إلى هذا العالم، فإننا لا ننخلع في واقع الأمر عن جذورنا، بل نحمل في أنفسنا الانفصال عن الجذور. و هذا الوجه الذي نحاول طيلة حياتنا أن نلصقه بجلدنا، حتى ولو أدى الأمر إلى فقدان هويتنا الأولى"(18). لقد بدت هذه المرحلة التي عايشها شعراء ما بعد السبعينيات و كأنها مرحلة التخلص من الإرث السبعيني، من خلال إعادة هيكلة البنيات الاجتماعية والاقتصادية غير القادرة على التأقلم مع معطيات العصر. وقد أدى ذلك إلى تعطل الآلة الصناعية و شحّ الإنتاج الزراعي في المنظومات الفلاحية التي طالما تغنى بإنجازاتها شعراء السبعينيات(19)، و ما تبعهما من تسريح سيزداد مع الوقت لآلاف العمال ذوي الأصول الريفية الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة واقع اجتماعي متغير لا يتكفل بمتطلباتهم الضرورية في عيش كريم كانوا يطمحون من خلاله إلى تحقيق أحلامهم المسكونة بالوهم السبعيني. و الحق أننا لو بحثنا عن الجذور الاجتماعية لشعراء ما بعد السبعينيات لوجدنا أن معظمهم ينتمون كنظرائهم السبعينيين إلى الطبقات الفقيرة من العمال أو الفلاحين التي حملت في صيرورتها التاريخية ظلم الاستعمار الفرنسي الغاشم، ودفعت ضريبة التحرير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أثناء الثورة التحريرية، و عايشت حلم الاستقلال و المساواة و العدالة الاجتماعية، وتحمّلت انعكاسات هذا الحلم على أرض الواقع. و قد تحمل شعراء هذا الجيل تبعات هذه الصيرورة و هي تفضي إلى تبلور الصراع بطريقة حادة و مريرة. و يبدو ذلك جليا في الموضوعات التي كانت تستحوذ على قصائدهم و طرائق طرحها بصورة مختلفة عن نظرائهم السبعينيين(20). لقد كانت العودة إلى موضوع الثورة الجزائرية باعتبارها بؤرة مركزية للتدليل على الانتساب الحضاري و التاريخي لشعراء ما بعد السبعينيات، و محاولتهم تلقف أيقوناتها الرمزية تأخذُ مجرى مخالفا في البنية الدلالية و الفكرية لنصوصهم من خلال تجاوز الطرح المناسباتي المباشر الذي كان يطبع النصوص السبعينية.كما تغيرت مصادر الاستقاء من المنابع الثقافية التي كانت تُميّز الجيل السبعيني، فأصبحت الرموز الثقافية و الفكرية المغيّبة في النصوص السبعينية أكثر حضورا في النصوص الجديدة من خلال استنطاق الحادثة التاريخية و إعادة قراءتها قراءة مختلفة. نستشف ذلك من خلال مناداة هؤلاء الشعراء لهذه الرموز وكأنها مناداة استنجادية للبعد المُغيّبِ في النص الشعري من أجل تعديل اختلالاته البلاغية و تحقيق مساحة التوازن في بنياته الدلالية. كما أعاد هؤلاء الشعراء طرح مشكلة الهوية الألسنية من خلال العودة إلى الإشكال اللغوي و ما كان يدل عليه من فوارق اجتماعية و ثقافية بينهم - بوصفهم شعراء معربين- و بين من كانوا ينتسبون إلى اللغة الفرنسية. و ذلك من خلال التركيز على ما حققه الانتماء إلى هذه اللغة للأدباء و الشعراء الناطقين بها من مستوى اجتماعي وثقافيٍّ مكّنهم من فرص التماهي مع المرحلة أكثر من نظرائهم المعربين. و ربما تخوّف هؤلاء الشعراء كغيرهم من المثقفين المعربين من خلال التعبير عن مواقفهم في خضم الجدل الثقافي في مرحلة الثمانينيات، من أنْ "تضيعَ العربيةُ في الفرنسية، فيقع المسخ للناشئة فينشأون على غير شيء، ما دام كل ما يتعلمونه هو غير شيء. [و قد] أصبح الفرنكوفيليون يتحكمون في مصير الأغلبية، و يرفضون تطلعاتها، و يدوسون على القيم التي تؤمن بها"(21). و سنرى أن شعراء ما بعد السبعينيات سيؤكدون على مشكلة الهوية الوطنية و الانتماء الحضاري و الغربة داخل اللغة الأم و تصوير الفوارق الاجتماعية و نقد البنية السياسية السائدة في أطروحاتهم الثقافية و نصوصهم الشعرية. و ذلك من خلال اتخاذ الإشكالات الأساسية التي أفرزها المجتمع في مرحلة الثمانينيات تيماتٍ ذات دافع يحمل في حركيته أساليب التعبير عن حدة الطرح الشعري المؤدِّي بدوره إلى تجاوز الأنماط السائدة على مستوى النصوص وتحرير فضاءاتها الدلالية و الفكرية من الرؤية المهيمنة عليها. و قد أصبحت المساءلات الجوهرية التي كانت تحملها هذه المرحلة التاريخية في مستوياتها السياسية و الإيديولوجية ظاهرةً للعيان بصورة واضحة في هذه النصوص. و الأكيد أن هذه التيمات قد دلّت الشعراء على مسافة الفارق الذي يجب تحقيقه من أجل الانفصال عن شعرية السبعينيات. و قد ساعد على ذلك تبلور مفاهيم الصراع الثقافي بين تيارين أساسيين متناقضين يتجاذبان مساحة النقاش الفكري و الإيديولوجي: أ- تيار عروبي إسلامي يريد أن يؤكد على ضرورة الانتماء الحضاري من خلال الرجوع إلى الأصول المُغيّبَة في فترة السبعينيات بوصفها مرجعيات متأصلة. ب- و تيار لائكي يساري يريد أن يحافظ على المكاسب المحققة في المرحلة السبعينية و دعمها خوفا من ضياعها نظرا لاهتزاز البنية الإيديولوجية لهذه المرحلة في أذهان الجيل الجديد من المثقفين. و تجلى ذلك من خلال التموقع الإيديولوجي للتيارين اللذين ظهرا وكأنهما يستعدان لمعركة حاسمة لم يكن أحد يعلم ما تخبئه مآلاتها السياسية و انعكاسها على مستوى الواقع الاجتماعي. و قد كانت الجامعة الجزائرية ميدانا حقيقيا لتجليات الصراع الفكري بين هذين التيارين على مستوى النقاش الفكري الحاد، و بداية ظهوره في وجهه العنيف. كما كانت (ملتقيات الفكر الإسلامي) مخبرا حقيقيا لبلورة المشروع الإسلامي الزاحف في صورته المشرقية في أذهان المنتمين إليه، والذي كان يستقي دعائمه الإيديولوجية من الحراك السياسي و الفكري العربي العام الذي كانت الجزائر جزءا منه. و لعل هذا المعلم الثاني الفاصل لمرحلة الثمانينيات ستتحدد نهايته في (أحداث أكتوبر 1988) على مستوى الجزائر في الوعي الثقافي العام للجيلين المتصارعين من خلال التيقن من انتهاء مرحلة تاريخية بكل ما حملته من رؤى سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية من جهة، و نهاية مبررات بقائها على مستوى الخطاب الأدبي و تجليات هذه الانعكاسات على بنياته الشكلية و الدلالية و الفنية من جهة ثانية. و لعل الذي سيؤكد نهاية هذه الرؤية هو تجلي نهايتها على المستوى العالمي، و ذلك بانهيار النظام الاشتراكي، و تلاشي الأنظمة الشيوعية على المستوى السياسي من خلال معلم تاريخي فاصل هو سقوط جدار برلين سنة1989. خاتمة: لقد كانت التغيرات السياسية و الاجتماعية و الثقافية التي شهدتها مرحلة الثمانينيات ذات وقع كبير على دعاة الرؤية الاشتراكية السائدة في المجتمع الجزائري من جهة، و على دعاة الخروج من هذه الرؤية و الدخول في مرحلة تاريخية جديدة من جهة أخرى. وقد كان شعراء ما بعد الثمانينيات في غالبيتهم ينتمون إلى هذه المرحلة التاريخية، إن من حيث المنشأ الاجتماعي أو من حيث المنهل الثقافي. و هم بصورة أو بأخرى نتاجٌ لمرحلة تاريخية مرتبطة بما سبقها من بنيات سياسية و اجتماعية نشئوا في خضم تأسيسها و الدعوة إليها. كما أنهم جزءٌ من إفرازاتها الثقافية والإبداعية التي شكّلت وعيهم الفكري و الثقافي و غيرت المجرى الإبداعي العام في نصوصهم الشعرية. إن المتمعن في جلّ الكتابات الشعرية لشعراء هذه المرحلة سيلاحظ بالضرورة تغيّر إشكاليات الطرح الفكري و الجمالي على المستوى الإبداعي و ظهور البوادر الأولى للتغيّر الذي طال البنية الاجتماعية والثقافية في نصوصهم الشعرية. و ذلك من خلال تلقف هؤلاء الشعراء لمتغيرات المرحلة التاريخية و استشراف مآلاتها المستقبلية في نصوصهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش و إحالات و تعليقات: (*)- توفي الرئيس الراحل هواري بومدين في ديسمبر 1978، وفتحت وفاته الباب مشرعا لبروز صراعات النخب داخل منظومة الحزب الواحد و خارجها من أجل الوصول إلى السلطة. و قد لا يبدو هذا المعلم على علاقة مباشرة بالخطاب الإبداعي عامة و الشعري بالخصوص، و لكنه في غاية الأهمية من حيث الإفرازات الثقافية و الأدبية التي أنتجتها هذه الصراعات بعد هذا التاريخ و التي أدت إلى وجوب تغيير البنيات الفكرية و الثقافية الموجودة و محاوله استبدالها برؤية أكثر رحابة في الطرح الفكري و الثقافي، أدت فيما بعد إلى يزور الحراك الثمانيني الذي انتهى بدوره إلى بروز الصراع علانية، و تجلي تبعاته على البنيات الموضوعية للخطاب الأدبي عموما و الشعري على الخصوص. (**)- تعتبر أحداث أكتوبر 1988 إنْ من حيث توقيتها، أو من حيث انعكاساته على الأجيال التي عايشتها و حتى الأجيال التي أعقبتها في التسعينيات، من أهم الأحداث التي شهدتها الدولة الجزائرية المستقلة منذ 1962. و قد بدت و كأنها نتيجة حتمية للحراك الإيديولوجي و الثقافي في فترة الثمانينيات وذلك نظرا لما يحيط بها من عوالم لم تتضح معالمها و أهدافها إلى الآن. و من هنا فإننا لا نستغرب تجليات هذا الحراك في النص الشعري في فترة الثمانينيات على مستوى الأغراض و المواضيع خاصة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش و إحالات و تعليقات: (*)- توفي الرئيس الراحل هواري بومدين في ديسمبر 1978، وفتحت وفاته الباب مشرعا لبروز صراعات النخب داخل منظومة الحزب الواحد و خارجها من أجل الوصول إلى السلطة. و قد لا يبدو هذا المعلم على علاقة مباشرة بالخطاب الإبداعي عامة و الشعري بالخصوص، و لكنه في غاية الأهمية من حيث الإفرازات الثقافية و الأدبية التي أنتجتها هذه الصراعات بعد هذا التاريخ و التي أدت إلى وجوب تغيير البنيات الفكرية و الثقافية الموجودة و محاوله استبدالها برؤية أكثر رحابة في الطرح الفكري و الثقافي، أدت فيما بعد إلى يزور الحراك الثمانيني الذي انتهى بدوره إلى بروز الصراع علانية، و تجلي تبعاته على البنيات الموضوعية للخطاب الأدبي عموما و الشعري على الخصوص. (**)- تعتبر أحداث أكتوبر 1988 إنْ من حيث توقيتها، أو من حيث انعكاساته على الأجيال التي عايشتها و حتى الأجيال التي أعقبتها في التسعينيات، من أهم الأحداث التي شهدتها الدولة الجزائرية المستقلة منذ 1962. و قد بدت و كأنها نتيجة حتمية للحراك الإيديولوجي و الثقافي في فترة الثمانينيات وذلك نظرا لما يحيط بها من عوالم لم تتضح معالمها و أهدافها إلى الآن. و من هنا فإننا لا نستغرب تجليات هذا الحراك في النص الشعري في فترة الثمانينيات على مستوى الأغراض و المواضيع خاصة. (1)- ينظر: رابحي، عبد القادر. إيديولوجية الرواية و الكسر التاريخي، مقاربة سجالية للروائي متقنعا ببطله.ض: الأدبي و الإيديولوجي في رواية التسعينيات.أعمال الملتقى الخامس للنقد الأدبي في الجزائر. منشورات معهد الآداب و اللغات.المركز الجامعي بسعيدة. 2008. ص:46. (2)- بغورة، الزواوي. الهوية و العنف في الخطاب الثقافي الجزائري. مج: العربي. وزارة الإعلام. الكويت.ع:599.تا: اكتوبر 2008.ص:29. (3)- جغلول، عبد القادر. تاريخ الجزائر الحديث. دراسة سوسيولوجية.ط:3. دار الحداثة. بيروت/د.م.ج. الجزائر.1983. ص:144. (4)- طالما عبر مالك بن نبي من خلال كتاباته عن خطورة استيراد الأنموذج الثقافي الغربي و دعوته إلى رؤية حداثية شاملة من خلال التركيز على مبدأ الانتماء الحضاري للأمة الجزائرية. و إذا كانت كتاباته قد وجدت لها صدى واسعا في المشرق العربي، فإن صداها لم ينتشر بشكل واسع في أوساط المثقفين الجزائريين إلا في مرحلة الثمانينيات. ينظر على سبيل المثال لا الحصر: بن نبي، مالك. تأملات. دار الفكر المعاصر. بيروت/دار الفكر. دمشق.2002. ص:28. (5)- ينظر: حربي، محمد. الثورة الجزائرية، سنوات المخاض. تر: نجيب عياد، صالح المثلوثي.ص:179. (6)- يستعمل مفدي زكريا الخطاب الشعري للتعبير عن انتمائه للأرض و الوطن بصورة قوية وصوت مُدوٍّ في ديوانه (اللهب المقدس) كما يعبر عن الأصول التاريخية و الهوية الثقافية للمجتمع الجزائري في ديوانه(إلياذة الجزائر) و لكنه يعبر كذلك عن موقفه من تصورات جزائر ما بعد الاستقلال بصورة واضحة من خلال استعمال المرجعية الشعرية أساسا لرفض المشروع السبعيني في ديوانيه اللذين نشرهما في تونس والمغرب. ينظر: زكريا، مفدي. اللهب المقدس.ط:4. م.و.ف.م. الجزائر.2006. وينظر: زكريا، مفدي. ألياذة الجزائر.م.و.ك. الجزائر.1987.و ينظر: زكريا، مفدي. تحت ظلال الزيتون. دار النشر. تونس. 1965. كما ينظر: زكريا، مفدي. من وحي الأطلس. المطبعة الحسنية. الرباط. 1976. (7)- إذا كانت الأسماء الشعرية التي كانت تكتب باللغة العربية معروفة بالنسبة للدارس نظرا لاهتمام النقاد بها و نظرا لأنها كانت أقرب من حيث عامل اللغة لشعراء ما بعد السبعينيات، فإن الأسماء التي كانت تكتب باللغة الفرنسية و لعبت دورا مرجعيا في تشكيل الرؤية الإيديولوجية للمتن الشعري الجزائري المفرنس في السبعينيات كثيرة ومتعددة.و هنا يجب الاعتراف أن ما كان يوحّد الشعراء الجزائريين من رؤية إيديولوجية في فترة السبعينيات لم يكن لينعكس على مستويات التجريب الشعري التي كانت أكثر اتصالا بالثقافة الغربية بالنسبة للشعراء المفرنسين. و قد خصصت الشاعرة و الباحثة زينب الأعوج جزءا هاما من بحثها المذكور سابقا لتلقف السمات الواقعية في أشعارهم، و التأكيد على الرؤية الإيديولوجية لدى هؤلاء الشعراء من أمثال: عبد الرحمن لغواطي، و جمال عمراني، و مالك حداد، و بشير حاج علي، و عبد الرحمن لوناس وغيرهم. ينظر: الأعوج، زينب. السمات الواقعية للتجربة الشعرية في الجزائر. دار الطليعة. بيروت. 1985. ص:67 و ما بعدها. (8)- الأعوج، زينب.المرجع نفسه. ص:77. (9)- ملاحي، علي. صفاء الأزمنة الخانقة. المؤسسة الوطنية للكتاب. الجزائر.1989. ص:97. (10)- يحياوي، عياش. تأمل في وجه الثورة. الشركة الوطنية للنشر و التوزيع. الجزائر.1983. (11)- فلوس، الأخضر. حقول البنفسج. المؤسسة الوطنية للكتاب. الجزائر.1990. ص:34. (12)- فلوس، الأخضر. المصدر نفسه.ص:34. (13)- لوصيف، عثمان. الكتابة بالنار. دارالبعث. قسنطينة.1982. ص:15. (14)- يحياوي، عياش. تأمل في وجه الثورة. الشركة الوطنية للنشر ة التوزيع. الجزائر.1983. ص:27/28. (15)- يجمع الدارسون على أن النص الشعري العربي الحديث قد شهد تغيرا جذريا من حيث المضامين و الأشكال من خلال الخروج من النظرة التقليدية المسيطرة على الشعر العربي و الدخول في مرحلة التجريب الشعري التي نقلت النص إلى فضاءات جديدة أدت بشعرائه إلى توظيف الرموز و الأساطير و الاعتناء بالوحدة العضوية والانسجام الموسيقي و الإيقاعي داخل البنيات العروضية المحدثة. و عادة ما يحددون فترة انتقال النص الشعري بين المعلمين التاريخيين المذكورين: 1948 باعتبارها محيلة إلى هزيمة ضياع فلسطين المتلازمة تاريخيا من ظهور حركة التجديد الشعري مع ما كتبته نازك الملائكة و السياب من أشكال جديدة في شعر التفعيلة، وبين سنة 1967 باعتبارها محيلة إلى الهزيمة التاريخية التي أثرت على وعي الشعراء و الأدباء بضرورة تجاوز الأنماط السائدة و الدخول في مساءلات المرحلة التاريخية الجديدة بإفضاءاتها الفكرية و الاجتماعية و الأدبية. ينظر: بلبل، فرحان.أحزان الشعر العربي الحديث بين 1967 و 1973. دار حوران للطباعة و النشر و التوزيع. دمشق.2009. (16)- الوهايبي، منصف. في كونية الشعر.أفق وجود أم استيطان مقنع. جر: القدس العربي. لندن.ت:10/06/2009. (17)- بغورة، الزواوي. الهوية و العنف في الخطاب الثقافي الجزائري. مج: العربي. وزارة الإعلام. الكويت.ع:599. تا: أكتوبر 2008.ص:29. (18)- راجو، باتريك. أدونيس و البحث عن الهوية. تر: وليد الخشاب.مج: فصول. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة.ع:2. 1997. ص:79. (19)- نرى ذلك جليا عند العديد من شعراء السبعينيات كما هو الحال بالنسبة للشاعر عبد العالي رزاقي في قصيدة (رسوم على معول) أو (أغنية) من ديوان(الحب في درجة الصفر) و كما هو الحال بالنسبة للشاعر حمري بحري في قصيدة (ضد الصمت) في ديوان (ما ذنب المسمار يا خشبة) و غيرها كثير. ينظر: رزاقي، عبد العالي. الحب في درجة الصفر.ص:42. كما ينظر: بحري. حمري. ما ذنب المسمار يا خشبة. منشورات آمال. 1981. الجزائر. ص:52. (20)- نلاحظ ذلك في عناوين بعض الدواوين التي يمكن أن نستشف من خلالها رمزية التدليل على مسافة الفارق في طرح الموضوعات كما هو الحال في(صفاء الأزمنة الخانقة) لعلي ملاحي، أو (هموم بضمير الحاضر الغائب) للعربي عميش . ينظر: ملاحي، علي. صفاء الأزمنة الخانقة. المؤسسة الوطنية للكتاب. الجزائر.1989. و ينظر: عميش، العربي. هموم بضمير الحاضر الغائب. المؤسسة الوطنية للكتاب. الجزائر.1986. (21)- مرتاض، عبد الملك. موقع اللغة و الثقافة العربية في مواجهة الفرونكوفونية. مج: العربي.وزارة الإعلام. الكويت.ع:515. أكتوبر.2001.ص:71.
نشر في الموقع بتاريخ : الخميس 4 صفر 1433هـ الموافق لـ : 2011-12-29
التعليقات
عبد العزيز العايب
دراسة جادّة جدّا تنمّ عن روح باحث أكاديمي...و هي تتقاطع مع موضوع أنا بصدد إعداده كرسالة دكتوراه لكني تناولت بالتطبيق فترة التسعينيات و ما صحبها..ألف شكر أستاذي الفاضل لأنك وجّهتني إلى كثير من المسكوت عنه في فترة ما بعد السبعينيات و هي الفترة التي تجاهلها كثير من الأكاديميين و النقاد..لأنها-في اعتقادهم- لم تَسم الشعر الجزائري المعاصر بسمات خاصة، في حين لقيت فترة السبعينيات اهتماما كبيرا ، و تمّ تناولها في عديد الأبحاث...لك فائق الودّ و التقدير، و أحسب أننا نتقاطع في كثير من الرؤى...
محمد الصغير داسه
أجل هي قراءة تحليلية واعية لحقيقة الأدب وأثره في نهصة الأمة الجزارية وانبلاج الفكر الخلاب بعد الا ستقلال.. ولابد من عملية تقييم معقلنة كالتي بين ايدينا والتي عرجت على مراحل هامة من حياة المثقف الجزاري واسهاماته وتأثره بالانفتاح والواقع السياسي خلال سبيعينات وثمانينات القرن الماصي..... الأستاذ الكريم الشاعر والناقد عبد القادر رابحي احييك والحهد واعد..اضأت درب الحقيقة في قراءة متوغلة في مسار الأدب والمدونة الشعرية بخاصة خلال مرحلتين متميزتين مرحلة التأسيس ومرحلة التفتح والتعددية..وكان رائعا ان فتحت مجالا بحثيا كان مغيبا اومسكوتا عنه...احييك سيدي وكل عام وانتم بخير والأسرة الكريمة ترفل في المسرات......خالص الود والتقدير..م.ص.داسه
أحمد عاد ـ الجزائر العاصمة
رغم أن البحث كان جادا ورصينا يقدّم خلاصة ويعطي أفكارا نيّرة بدون شك، لكن يبدو لي أن الطرح جاء كلاسيكيا يستمدّ معانيه من قاموس الماضي القريب الذي نال حظه من دراسة الدارسين. لكن ذلك لا يمنعننا من تناول الأدب السبعيني عموما، شعرا كان أم قصّة أم خواطر، إنما برؤية تنسجم مع واقع الحال من حيث الرؤى والمصطلح، ولا أجد أفضل من تناوله من حيث الشاعريّة المتمثلة في الوحي الفني والروح المبدعة بغضّ النظر على كونه مرتبطا بوضع سياسي لأن بومدين نفسه رحمه الله لم يكن يجبر الشعراء على مدحه ومدح سياسته، أما أن يوصف شعر تلك المرحلة بالبومديني واليساري والاشتراكي، فهذا ما أراه منفـّرا لأن المسألة سبق لها وأن طرحت وأثيرت. ولأستاذنا الكريم كل الفضل والاحترام
حبيب مونسي
جهد معتبر.. كما عهدتك تحفر في الأسس.. بيد أن العرض على النحو من الطول قد يجعل القراءة متعبة نوعا ما كما أن محاولة تأسيس الرؤية على بيانات تتصل بالسياسي وحده قد تفوت فرصة النظر في اتجاهات أخرى.. مادتك غزيرة ونافعة إن شاء الله.. دم طيبا
عبد القادر رابحي
أخي الكريم الأستاذ الباحث العايب
تحية و سلام و كل عام و أنتم بخير..
تشرفت بمداخلتك و ما حملته من إضاءات عن هذه الورقة..
أنا معكم في كون أن فترة ما بعد السبعينيات لم يهتم بها النقد بعد على الرغم من أهميتها بالنظر إلى ما شكلته من مرحلة انتقال حاسمة في الخطاب الثقافي للجزائر المستقلة عموما و الخطاب الشعري على الخصوص .. و هذه النقطة بالذات هي التي كانت تهمني كثيرا بالنظر إلى عمل سابق صدر في كتابين خصصتهما لفترة السبعينيات التي يعتقد الكثير أنها قتلت بحثا في حين أنها لا زالت تخفي العديد من العلامات المرتبطة بالبعد السياسي و الفكري و الايديولوجي الذي سيطر على هذه الفترة خاصة. و مكمن اهتمامي بهذه الفترة كان محل بحث أشمل تعرض لعديد الجوانب في شعرية ما بعد السبعينيات و تعرض من ضمن ما تعرض له، للافرازات السبعينية للخطاب الثقافي و الأدبي و أثرها في تشكيل رؤية تجريبية في النص الشعري الذي تلاها.. أود فقط أن أقول إلى أن هذه الورقة صدرت في العدد الثالث من مجلة (المعيار) عن المركز الجامعي بتيسمسيلت .. شكؤرا جزيلا لك مع تمنياتي بالنجاح..
عبد القادر رابحي
عبد القادر رابحي
أستاذي الفاضل الأديب القاص محمد الصغير داسه..
تحية و سلام و كل عام و أنتم و الأهل بخير..
كعادتكم سباقون إلى إبداء الرأي في ما يكتب.. سعيد كثيرا و ككل مرة بمروركم.. و كما تعرفون ..لا زالت العديد من المراحل الأديبة في التاريخ الجزائري جديرة بالدراسة والإضاءة من زوايا مختلفة نظرا لما تخفيه من أفكار كانت من ضمن المسكوت عنه أو التمناسي عمدا أو المُحيّد قسرا و قهرا..
إن كل ما كتب عن شعر السبعينيات - على الرغم مما يبدو من كثرة ملها الدرسون نظرا لتكرار الزوايا التي تناولته منها- لا يعدو أن يكون حفنة من الكتب و الدراسات معظمها بحوث جامعية خاضعة لرتابة المنهج و أحادية الرؤية. و الدليل هو الصعوبة التي يلاقيها الطلبة الجدد المتمين بالشعر الجزائري الذين لا يعرفون عن هذه الفترة شيئا يذكر غير ما كتب مما هو معروف يجدون صعوبة كبيرة في الوصول إليه هذه و لا يجدون شيئا آخر غيره عندما يتعلق الأمر بالدراسات النقدية التي تتعرض إلى الشعر الجزائري المعاصر من زوايا مختلفة و بوجهات نظر متباينة..
أتمنى أن تكون هذه الورقة إطلالة مختلفة على الظروف الفكرية و السياسية و الثقافية التي مهدت لبروز بوادر نص شعري مختلف عما كان سائدا في فترة السبعينيات..
شكرا لأستاذي الكريم .. و دمتم و دام مسعاكم..
عبد القادر رابحي
عبد القادر رابحي
أخي الكريم الأستاذ الفاضل أحمد عاد..
تحية و سلام و كل عام و أنتم بخير..
شكرا جزيلا لكم على المرور و المتابعة و على سعة صبركم على قراءة روقة ربما بدت ثقيلة بطولها و منفرة بإعادتها لأفكار تبدو هي الأخرى منتهية الصلاحية نظرا لتناولها سابقا..
غير أنه يبدو لي أن هذه الورقة لم تتطرق إلى شعر السبعينيات و ما قيل عنه و يعتقد الكثير أن الكلام عنه قد انتهى، و إنما تطرقت
إلى الأسباب التاريخية و السياسية و الاجتماعية التي أدت إلى تغير وجهة النظر الابداعية لدى من سميناهم بشعراء ما بعد السبعينيات. و قد حاولت هذه الورقة أن تستعين بمجمل الأفكار السياسية و الثقافية و الاجتماعية الفاعلة في هذه الفترة من أجل إيجاد فهم أمثل لتغير بنية الخطاب الشعري إن من جهة موضوعاته أو من حيث أساليبه. و هناك أجزاء أخرى من هذا البحث حاولت أن ترصد الظوامر الفنية و الجمالية التي غابت عن هذه الورقة.
و رغم ذلك فإن البحث عن الأسس الفكرية و المنطلقات المعرفية للشعرية الجزائرية المعاصرة لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يمر مرور الكرام على الفترة السبعينية بدعوى أنها قتلت بحثا- المتنبي و الجاخظ هما كذلك قتلا بحثا- ، كما لا يمكنه أن يتخلى عن الأبعاد السياسية و الاجتماعية التي لعبت دورا أساسيا في بلورة الخطاب الثقافي و الابداعي في فترة ما بعد السبعينيات..
لقد كانت هذه الفترة لحظة مخاض تاريخية لا زالت تفاعلاتها تحدث أثرا في الواقع الثقافي و الابداعي و السياسي إلى اليوم- و لنا أن نطرح السؤال:ما هو السر في ذلك؟ .. و لا يمكن أن نحدد فاعلية هذا الخطاب الشعري بالتعرض ضرورة و قسرا للجوانب الفنية الجمالية بمنظورات منهجية أثبتت التجربة عدم مصداقيتها في التأسيس لرؤية شاملة و متوازنة تدخل من ضمن عناصرها الأفكار و الرؤى المغيبة عمدا و بموجب الفعل السياسي النافذ عن الواقع الثقافي لجزائر السبعينيات و الثمانينيات.. و هنا وجب عليّ أن أقول لكم بكل احترام و تقدير أن بعض ما كتبه مفدي زكريا لم ينشر إلى اليوم و أن بعض ما كتبه مالك بن نبي لم ينشر إلى اليوم و أن بعض ما كتبه العديد من الكتاب المختلفين في وجهة النظر السياسية و الفكرية في فترة السبعيبنيات لم ينشر إلى اليوم كذلك..
و لكم أن تربطوا الصلة بين هذه الاسماء الفاعلة بثقلها الثقافي و السياسيي و الفكري و بين العديد من الأسماء الشعرية الجزائرية التي عبرت مرحلة ما بعد السبعينيات و هي ترى بوادر التغير تحدث في الساحة الثقافية الجزائرية.
يبدو لي بكل تواضع أن المسألة مسألة وجهة نظر وليست مسألة تكرار..
شكرا لك ..
عبد القادر رابحي
أخي و صديقي الأستاذ الباحث المبدع حبيب مونسي
تحية و سلام و عام سعيد..
شكرا لكم على المرور .. و هذا من فضلكم و كرمكم و أعتذر عن طول الورقة و قد نسيت - و أنا القلِق دوما- عهدكم بمثيلاتها تقسمونه إلى جزأين يكون كل واحد منهما سهلا على القارئ هظما و فهما.. و طول الكتابة كطول الطريق فيهما مشقة و عناء..فلك العتبى حتى ترضى
أما عن الاهتمام يما تعتقدون أن بيانات سياسية في تحليل الخطاب الأدبي مع إهمال الجوانب الأخرى لهذا الخطاب، فقد كانت الورقة أصلا تتعمد على البعد التاريخي و السياسي و الاجتماعي في توضيح غوامض التحول الجمالي و الفني في هذا الخطاب. ذلك لأن جل ما كتب عن هذه الفترة إنما حاول أن يهتم بالجوانب الفنية و الجمالية -على الرغم من ضحالة ما قدمته للمدونة الشعرية السبعينية خاصة-، و أغفل عن عمد أو غير عمد الرؤية الفكرية و السياسية الفاعلة و شرطية الحراك الاجتماعي في تحول مجمل البنيات الابداعية . و لا أخفيكم أنني و بكل تواضع أجد متعة كبيرة في التعرض للنص الشعري معتمدا على مدونة مرجعية فكرية و سياسية و تاريخية تريحنا مما أثقلت به البلاغات المعاصرة خطاباتنا النقدية ..
لكم جزيل الشكر.. و دمتم..