نصوص نقدية

مع الروائي الجزائري محمد مفلاح

سلطة القارئ في الأدب
محمد عزّام
مجلة الموقف الأدبي * مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق * العدد 377 أيلول 2002
 "هنالك على الأقل ثلاثة آلاف طريقة لارتياد الحدث الأدبي ودراسته."‏
-روبير اسكاربيت‏
ثلاثة مناهج نقدية اهتمت بالقارئ والقراءة: (البنيوية) الفرنسية التي نادى ممثلها رولان بارت بموت الكاتب، وأعلن ولادة القارئ الذي يصنع معنى النص. و(نظرية التّلقّي) عند النقاد الألمان من جامعة كونستانس، ممن نادوا بجماليات القراءة، وآلياتها، وعلى رأسهم ياوس، وآيزر. و(التفكيكية) التي قالت بتعدد القراءات، حسب القرّاء حتى ليمكن القول إن كل قراءة تختلف عن سابقتها.‏
وسنعرض في هذا الفصل جهود النقد البنيوي في القراءة والتلقي، وفي الفصل الذي يليه جهود النقاد الألمان في جماليات التلقي.‏
1-موت الكاتب:‏
أعلن الناقد الفرنسي المعاصر رولان بارت في عام 1968 في مقاله (موت الكاتب) أن الكتابة هي نقض لكل صوت، دافعاً المؤلف إلى الموت، حين يقطع الصلة بينه وبين نصّه الإبداعي. ومن هنا تبدأ (الكتابة) التي يسميها بارت (النصوصية)، بناءً على أن اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف.‏
إن (المؤلف) شخص حديث جاء تاريخياً بعد (الراوي)، وهو من نتاج مجتمعنا الحديث الذي خرج من القرون الوسطى معضداً بالتجريبية الانكليزية، والعقلانية الفرنسية، والإيمان الشخصي بحركة الإصلاح. فعقد المذهب الوضعي أهمية عظمى على (شخصية) المؤلف، باعتبار هذا المذهب هو خلاصة الأيديولوجيا الرأسمالية. فهيمن (المؤلف) على كتب التاريخ الأدبي، والسّير، وحوارات المجلات، وحتى على الأدباء الذين حرصوا على أن يصلوا، في مذكراتهم، بين شخصياتهم وأعمالهم الأدبية. ومن هنا تركيز الأدب في الثقافة المألوفة على المؤلف وشخصيته، وتاريخه، وأهوائه. كما لا يزال (المؤلف) قوام النقد، فيُقال مثلاً: إن عمل بودلير يمثّل إخفاق بودلير، وإن عمل فان غوغ يمثل جنونه، وإن عمل تشايكوفسكي يمثل رذيلته. وهكذا فإن البحث عن تفسير للعمل الأدبي يتجه دائماً إلى الشخص الذي أنتجه.‏
ويرى بارت أنه على الرغم من أن امبراطورية المؤلف لا تزال عظيمة السطوة، فإن بعض الكتّاب قد حاول، منذ أمد بعيد، أن يزلزلها؛ فقد كان مالارميه مثلاً هو أول من رأى وتنبأ بضرورة وضع اللغة مكان ذاك الذي اعتبر حتى هذا الوقت مالكاً لها. ذلك أن اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف. وبهذا يصبح معنى الكتابة هو بلوغ نقطة تتحرك اللغة فيها وحدها، وليس (الأنا)، وفيها تنجز الكلام...‏
ويخفف فاليري من حدة نظرية مالارميه، لأنه كان مرتبكاً داخل سيكولوجية الأنا، ولأن ذوقه الكلاسي كان يدعوه إلى دروس البلاغة، فإنه كان يتوقف عن الدوران، شاكّاً في المؤلف وساخراً منه، ومركزاً على الطبيعة اللسانية لنشاطه. وقد طالب في كتاباته النثرية بمراعاة الشرط اللفظي الأساسي للأدب، والذي يرى أن أي لجوء إلى داخلية الكاتب إنما هو خرافة محضة.‏
وتعهّد بروست جهاراً، على الرغم من السمة النفسانية الظاهرة، لما يسمى "تحليلاته"، أن يشوش علاقة الكاتب بشخصياته تشويشاً حاداً، فهو يجعل من الراوي، ليس ذاك الذي رأى أو شعر، ولا ذلك الذي يكتب، وإنما ذلك الذي سيكتب...‏
ونقف أخيراً عند السريالية، في مرحلة ما قبل الحداثة، فنرى أنها ما كانت لتقوى على منح اللغة مكاناً رئيسياً في الأدب، لولا أنها نزعت هالة القداسة عن المؤلف، ورأت في اللغة نظاماً. وعلى الرغم من أن السريالية هدفت إلى تدمير القوانين والأنظمة، فإنها زلزلت هذه القوانين، وأوكلت إلى اليد مهمة الكتابة بسرعة قصوى، لكي تكتب ما يجهله الرأس نفسه، وهذه هي (الكتابة الآلية) التي دعت إليها، كما دعت إلى (الكتابة الجماعية).‏
بيد أن بارت يرى أن هذه الأمور جميعاً قد أصبحت بالية، وأن اللسانيات قد قدمت أداة تحليل نفيسة لتدمير الأدب، وأوضحت أن التعبير سيرورة فارغة تعمل دون أن تكون ثمة ضرورة لكي تُملأ بشخص المخاطبين. فالمؤلف، لسانياً، لم يكن قط أكثر من ذلك الذي يكتب، واللغة تعرف (الفاعل) وليس (الشخص). وهكذا أصبح (المؤلف) اليوم تمثالاً صغيراً في الطرف الثاني من المشهد الأدبي، وأصبح (النص) يُصنع ويُقرأ بطريقة تجعل المؤلف غائباً عنه. وإذا كان (المؤلف) قديماً يقف من كتابه موقف الأب من طفله، لأنه سابق عليه وجوداً، فإن الأمر يختلف اليوم بالنسبة للناسخ الحديث، إذ هو يلد في الوقت نفسه الذي يلد فيه نصه، وما كان ذلك كذلك إلا لأن النص لا ينطوي على كائن سابق أو لاحق لكتابته. وهكذا دفن (الناسخ) الحديث (المؤلفَ).‏
ويرى بارت أن (النص) لم يعد سطراً من الكلمات ينتج عن معنى أحادي، ولكنه فضاء لأبعاد متعددة، تتزاوج فيها كتابات مختلفة وتتنازع دون أن يكون أي منها أصلياً، لأن النص نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة، ولأنه مصنوع من كتابات مضاعفة، ونتيجة لثقافات متعددة، تتداخل كل مع بعضها بعضاً في حوار ومحاكاة وتعارض. وتتجمع هذه التعددية ليس في الكاتب، وإنما في (القارئ) الذي حل محل (الكاتب)، ولكن ما إن تم إبعاد (الكاتب) حتى أصبح الزعم بـ(فك رموز) النص زعماً دون فائدة، مثلما كانت نسبة النص إلى مؤلفه. وهذا يعني أننا نفرض على النص أن يتوقف، كما يعني أننا نفرض عليه سلطة مدلول نهائي وإغلاق الكتابة. بينما المطلوب هو أن نجوب فضاء الكتابة، لا أن نخترقه. والكتابة تصنع المعنى باستمرار. ولكن من أجل تبخيره. ولكي تسترد الكتابة مستقبلها يجب قلب الأسطورة: فموت الكاتب هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القارئ.‏
وبهذا يحسم بارت الصراع بين العاشقين المتنافسين على محبوب واحد، فيقتل بارت منافسه/ الكاتب، ليستأثر بحب معشوقه/ النص، فيلتذّ به. وينتصر القارئ على الكاتب، ويخلو الجو للعاشق ليمارس حبه مع محبوبه الذي لم يعد يشاركه فيه أحد، وتتحول العلاقة بين المؤلف والنص من علاقة بين أب وابنه إلى علاقة ناسخ ومنسوخ، أي أن المؤلف لم يعد يكتب عمله، وإنما هو ينسخه بيده، مستمداً جهده من اللغة التي هي مستودع إلهامه.‏
ويستقبل القارئ النص، لينعشه في حياة جديدة. وتصبح الكتابة حالة تمثّل ذاتي. وبهذا يجهز بارت على نظرية (المحاكاة) الكلاسية التي تعتبر الأدب مرآة تعكس ما هو موجود في الحياة فترى (الكتابة) الجديدة أن الكاتب إنما ينسخ نصّه مستمداً من المخزون اللغوي الذي يعيش في داخله مما حمله معه على مرّ السنين. وهذا المخزون الهائل من الإشارات والاقتباسات جاء من مصادر لا تُحصى من الثقافات، ولا يمكن استخدامه إلا بمزجه وتوليفه. ولهذا فإن النص يُصنع من كتابات متعددة منسجمة، ومن ثقافات متنوّعة، ويدخل بذلك في علاقات متبادلة من الحوار والمنافسة مع سواه من النصوص، وبذلك يقدم رولان بارت ما سماه بـ(معجم النصوصية المتغاير العناصر). وفيه يصدر النص من ناسخه كإشارات متعاقبة مأخوذة من مستودع اللغة.‏
وبدلاً من نظرية (المحاكاة) الكلاسية، ونظرية (التعبير) الرومانسية، ونظرية (التوجيه) الملتزمة، فإن بارت يقدم نظرية (النصوصية) التي تبشّر بموت الكاتب، وبتحوّل التراث إلى نصوص متداخلة، حيث يصبح النص متفجراً إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى حركة مطلقة من المعاني اللانهائية التي تتحرك منتشرة فوق النص، عابرة كل الحواجز. وهذا ما يسمه بارت بـ(الانتشار) Dissemination.
ويعرض بارت نوعين من النصوص هما: النص الكتابي، والنص القرائي. فالنص الكتابي هو النص الحديث الذي يدعو إليه بارت، وهو نص يمثل (الحضور الأبدي). والقارئ فيه ليس مستهلكاً، وإنما هو منتج للنص. والقراءة فيه هي إعادة كتابة له. وهذا النص هو حلم خيالي من الصعب تحقيقه، ولكنه مطلب سام للأدب، لأنه الشعر دون قصيدة، والأسلوب دون مقالة، والقارئ فيه لا يقرأ، وإنما يفسّر ويكتب، لأن النص ليس بنية من الدلالات، ولكنه (مجرّة) من الإشارات. وهي نص لا بداية له، كما أنه قابل للانعكاس الذاتي على نفسه. وهذا على النقيض من النصوص القرائية التي تطغى على الأدب، وهي نصوص تتصف بأنها (نتاج) لا (إنتاج). وهي الأدب الكلاسي الذي يُقرأ فقط، دون أن تُعاد كتابته. بينما يحتاج النص الكتابي إلى عاشق مولّه لا يتورّع عن اختطاف محبوبته، والبقاء معها في المطلق، بعيداً عن كل حدود المنطق والواقع.(1)‏
ويقدّم بارت نموذجاً للقراءة في كتابه‏
(Z/S) 1970 وهو دراسة لقصة من ثلاثين صفحة لبلزاك عنوانها (العربي)، يقول في فاتحتها: "إن بعض البوذيين يرى العالم في حبة فاصولياء بفضل نزعتهم التقشفية". وهذا ما تريد التحليلات الأولى للقصة أن تقوله. أن ترى كل قصص العالم في بنية واحدة. ويعتقد أننا بسبيل استخلاص نموذج من كل قصة. ومن تلك النماذج نقيم بنية قصصية ضخمة نطبقها على أي قصة في الوجود.. يا للمهمة الشاذة.. وأخيراً نصل إلى ما لا نرغب، لأن النص يفقد بذلك ما يميزه عن غيره. (ص 9)‏
ويرى بارت أن مقولة القراءة، بتناغمها مع عبقرية اللغة، ليست دائماً صحيحة. فالنص كلما زادت جماعيته، تضاءلت فيه صفة النص المكتوب قبل القراءة، دون أن يخضع لعملية تحويل يترتب عليها عملية أخرى هي القراءة. لأن (أنا) القارئ ليست ذاتاً بريئة وأجنبية على النص، تتعامل معه وكأنه مادة للتحليل أو منتجع للسكن. فهذه الأنا التي تتقدم نحو النص هي أيضاً ذات (جماعية) تكونت من نصوص أخرى، ومن شفرات غير متناهية، منسية انطمست أصولها.‏
إن (الموضوعية) و(الذاتية) قوتان قادرتان على احتواء النص. ولكنهما قوتان لا صلة لهما بالنص. (فالذاتية) صورة مطلقة ذات كمال خدّاع، تيقّظ الشفرات التي تكوّن القارئ، لكنها لا تقدم سوى القوالب العمومية. أما (الموضوعية) فهي نظام تصوّري، وصورة تخدم القارئ وتمنحه اسماً، وتجعله معروفاً حتى لنفسه.‏
والقراءة تورّط القارئ بمخاطر الذاتية أو الموضوعية. وكلاهما صوري، إذا عرفنا أن النص موضوع تعبيري قُدّم إلى القارئ ليعبّر عنه، ورفعه القارئ إلى حدّ الحقيقة الأخلاقية فمرة يكون قولاً لغوياً، وأخرى زهداً. والقراءة ليست فعالية اتكالية، ولا تكملة انعكاسية للكتابة، وإنما هي نوع من العمل، برهانها في فعاليتها، ومعاناتها في لغتها، وفي إيجاد معانيها، وإعطاء هذه المعاني أسماء. ولكن هذه المعاني المسّماة تندفع متجهة نحو أسماء أخرى. فالأسماء يدعو بعضها بعضاً، وتتجمع. وتجمّعها يستدعي تسميات أخرى. وبذلك يتحرك النص، ويتكوّن من جديد، في عملية تقريب دائبة، تجعله دون معنى، لأنه كينونة من الإشارات التي ليس لها إلا أن تشير، وليس للقارئ إلا أن يفسر، فينتج- بذلك- نصاً جديداً، ولا يكتفي باستهلاك النص.‏
وبهذا لا يعيد القارئ إنتاج المنتج سابقاً، وإلا أصبح النص مكرراً، وإنما هو يجدد المنتج من خلال قراءته له، فيصبح المقروء إنتاجاً جديداً يعتمد على المنتج السابق، ولكن من خلال رؤية القارئ. وتصبح عملية القراءة مقدمة لعملية إبداع جديدة. وبهذا فإن الكاتب يموت، ليولد من رماده القارئ الذي يستلهمه ويضيف إليه. وهكذا يتحوّل النص الإبداعي إلى نص تأويلي، ويبدو عالماً متحولاً على الدوام بحسب قرائه.‏
وهكذا تنصهر التجربتان: إبداع الكاتب، وقراءة القارئ، الذي يدخل عالم النص بكل ما يحمل من إرث ثقافي وفني، مستحضراً المعرفي المعاصر الذي يثيره النص الأدبي، فتندمج هذه المعارف والتجارب، في تركيب جديد ناتج عن التفاعل بين تجربتي الكاتب والقارئ. وبهذا فإن النص الأدبي لا يحتمل بعداً واحداً فحسب، وإنما أبعاداً عديدة متجددة، بحسب قرائه، وثقافاتهم.‏
2-ولادة القارئ:‏
بدأت سلطة القارئ مع النقاد الألمان في جامعة (كونستانس) حيث جعلوا للقراءة علم جمال خاص دعوه (جماليات التلقي) The theory reception ودعاه الباحثون الأمريكيون (نقد استجابة القارئ) Reader response criticism، كما بدأت مع الناقد الفرنسي رولان بارت والنقاد البنيويين. يقول بارت: "إن (ميلاد القارئ) يجب أن يكون على حساب (موت المؤلف)"(2)، ويصرّ النقاد البنيويون على أن الإبداع هو (سجن اللغة)، باعتبار أن للغة قوانينها الداخلية المستقلة عن إرادة المبدع، وأن النص الأدبي عالم مغلق على معان غير محددة، وبنية لغوية مقفلة مكتفية بذاتها في إنتاج المعنى، مستقلة عن أي مرجع خارجي، سواء كان المؤلف أو المجتمع. وقد أعلنت البنيوية (موت المؤلف)، وحصرت وظيفة النقد في كشف (شفرات) النص وجعلت وظيفة الناقد هي الكشف عن نظام النص وقوانينه الداخلية التي تحكم نسيجه الواصل بين وحداته، باعتباره نظاماً من العلامات والعلاقات، ورسالته لا تكمن في معناه، وإنما في انتظامه.‏
وهكذا تبدأ القراءة البنيوية من (النص) وتنتهي به، وكأنه غاية بحدّ ذاته. وهي ترى أن النص يكشف عن (بنية) محدّدة، وعن (نسق) أو مجموعة أنساق وأنظمة، وأن وظيفة القارئ تتمثل في الكشف عن شفرات النص وأنساقه المختلفة. ولا ينبغي له أن يضيف شيئاً من عنده. ذلك أن القراءة البنيوية الصحيحة هي التي تستطيع التوصّل إلى أسرار النص الداخلية في بنياته وأنساقه وعلاقات أنظمته. ولهذا فإن القارئ البنيوي يعتبر مبدعاً للنص من جديد، ومانحاً إياه دلالاته، لأن النص لا قيمة له من دون قارئ. ودلالة النص هي التي يحدّدها القارئ، لا النص.‏
لقد كان (القارئ) منسياً في نظريات الأدب الكلاسية، لكن نظريات (التلقي) و(التأويل) أعادت له حقه وأهميته، ووضعته في رأس قائمة أولوياتها، لأنه (منتج) النص ومؤوّله.‏
وهكذا انتقلت سلطة الأدب من (الكاتب) و(النص) إلى (القارئ) الرأس الثالث للمثلث الذهبي الأدبي. بعد أن أُعلن "موت الكاتب"، ووضعت القوانين الضابطة للقراءة، فجعلت القارئ محكوماً باستراتيجية الجماعة التي ينتمي إليها، ومدفوعاً إلى التحذير من الوقوع في رد الفعل الذي يوقع في (أسطورة القارئ) بعد التخلص من (أسطورة الكاتب) و(النص). ومن أجل ذلك تمّ التساؤل عن جدوى تعدد القراءات، وهل كلها صالح ينتج تأويلات صائبة؟ وتمّ التنبيه إلى أن القارئ قد لا يتخلى عن ذاتيته ورغباته، وبالتالي فإن هذه كلها ستنعكس على تأويلاته القرائية.‏
هكذا أصبحت طبيعة (المتلقي) حاضرة في العملية الإبداعية، وأصبح (الكاتب) يحسب حسابها، فيعطي لكل شخصية في أدبه حقها من الحرية التعبيرية، ويراعي وضعها الاجتماعي والثقافي، فلا يجعل الفلاح يتحدث حديث الفلاسفة، ولا الصبي يتكلم كلام المثقفين. وأصبحت أساليب التعبير محكومة بإطار الاتصال، وأصبح الأسلوب قوة ضاغطة يسلطها الكاتب على القارئ، ليسلبه حرية التصرف، بما في الأسلوب من عمليات إقناع عقلانية، ولذة ممتعة، أو لذع مزعج.‏
هكذا أصبح النص لا وجود له دون قارئ يمنحه بنياته وعلاقاته ودلالاته. وأصبح (النص) بناء ينتظر القارئ الذي يخلق منه المعنى الذي يريده، ولم يعد (القارئ) مجرد متلقٍ سلبي، أو مستهلك خاضع لسلطة النص، وإنما هو خالق النص. وبهذا تصبح القراءة عملية إنتاجية، لا عملية تلقٍ دون فعل، ولهذا جاءت (جماليات التلقي) لتؤكد تعدد قراءات النص الواحد، ولا نهائية دلالاته، حتى لدى القارئ الواحد.‏
وهذه المقاربات القرائية ترفع الغبن الذي كان قد لحق بالقارئ، وتعترف له بالفضل، وتؤكد أن لا نص دون قارئ، ولا كتابة دون قراءة. وأن القراءة خلّصت النص من أسطورة المعنى الواحد التي كانت السلطة السياسية تؤكدها، بخلاف اليوم، حيث تصدّعت مركزية السلطة، وأُفسح المجال أمام الديموقراطيات التي جاءت بحوار الجماعات والأفراد، وبالرأي الآخر.‏
و(النص) الأدبي يظل قابلاً للقراءة في كل زمان ومكان، وبما أن الكاتب يتوجه بنصّه إلى القارئ، فإن النص يبقى (ميتاً)، أو في حالة كمون، ما لم يأت قارئ يعيده إلى الحياة، ويفجر فيه طاقات الفاعلية، عن طريق تحليله وتأويله.‏
هكذا يصبح النص ملكاً للقارئ، منذ يخرج إلى الوجود، وعرضة لتعدد القراءات، في كل زمان ومكان، تبعاً لمستويات القراء الأدبية والثقافية، ففي حين يكتفي القارئ العادي بالمتعة التي يحصل عليها لدى قراءته نصاً أدبياً، فإن القارئ الناقد لا يكتفي بهذه المتعة، وإنما يتجاوزها إلى الكشف عن دلالات النص وإيحاءاته.‏
ومن هنا تصبح (القراءة) عملاً إبداعياً يوازي إبداع النص نفسه. ولهذا طالب النقاد بقرّاء ممتازين، فقال آيزر بـ(القارئ الضمني أو المضمر)، وقال وولف بـ(القارئ المرتقب) الذي يضعه الكاتب في اعتباره أثناء الكتابة، وطالب ريفاتير بـ(القارئ المتفوق)، وفيش بـ(القارئ المثالي)، وبارت بـ(القارئ غير البريء) الذي يختزن عدداً لا نهائياً من النصوص والإشارات.‏
ولكي تصبح (القراءة) عملية إنتاجية، ينبغي أن يمتلك القارئ صفات تؤهله لإعادة إنتاج النص الأدبي، منها أن يكون ذا حظ كبير من الوعي الأدبي والجمالي واللغوي، وأن يكون واسع الاطلاع على الثقافة والعلوم الإنسانية، ملماً بها، مفيداً منها. فالمعارف الأولية بالعلوم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والبيولوجية تسارعت كثيراً في فهم النص وتأثير العوامل الشخصية والبيئية على النتاج الأدبي. كما أن اطلاع المتلقي على الآداب الأجنبية يساعده على فهم الظواهر الأدبية، ومقارنة الأدباء، ومعرفة تأثرهم ببعضهم بعضاً. أما اطلاعه على أدبه القومي فلا غنى عنه بشرط أن يتخلّى عن تحيّزه الأيديولوجي. ومثل هذه الإحاطة بالآداب والعلوم تمكنه من إطلاق أحكام أكثر دقة وعلمية. ولهذا تتعدد القراءات بحسب النصوص الإبداعية، وقرائها المختلفي الثقافات والخبرات والأمزجة، وعصورها التي كتبت فيها، والعصور التالية وقيمها ومعارفها.‏
والتفاعل القرائي بين القارئ والنص يقوم على مستويين:‏
1- مستوى التلقي: وذلك من خلال تفاعل القارئ مع النص المقروء، حيث تمتلك الكتابة استراتيجيات تبرز حين ننظر إلى النص الأدبي كبنية تتفاعل في داخل مجموعة من العناصر النصية، مع بنيات أخرى خارج نصية، باعتبار النص متوالية من العلاقات اللغوية التي تنتظر من القارئ ألا يقف عند حدود تفكيكها، وإنما يتجاوز ذلك إلى تأويلها، باعتبار النص بنية مفتوحة للتلقي والتأويل، وباعتبار أن في سلسلة النص كثيراً من الفجوات والانقطاعات التي ينبغي ملؤها من قبل القارئ.‏
2- مستوى إعادة إنتاج النص: وذلك بعد أن يتمّ القارئ اكتشاف بنيات النص، وتحليل علاماته وإشاراته، ثم تأويله حسب مخزونه الثقافي، ووصله بالمعلومات الجديدة.‏
هكذا أصبحت (الكتابة) كتابة (عن الكتابة). وأصبح (النص) صورة عن الصور المتكررة على مرايا متقابلة، متوازية، تدور بها الكتابة على نفسها. وبدأ اللعب الحر للتفسيرات يدمّر مركزية الأصل، وتمّ إطلاق سراح الطاقة المقموعة للمعارضة، والسخرية، والمحاكاة التهكميّة في القراءات المختلفة التي تنوعّت، وتقاطعت، حتى ألغى بعضها بعضاً. وأصبحت (القراءة) مصطلحاً نقدياً له علاقة بانفتاح النص وتعدديته، وبديموقراطية (الناقد) الذي بات يُسمّي اشتغاله على النص" قراءة"، ليترك المجال لأقوال وتأويلات أخرى تعيش على أقواله وتأويلاته، حالة من التعددية التي تتناقض، وتتعاضد.‏
3-استجابة القارئ:‏
تؤكد (نظريات التلقي) استجابة القارئ للنص، فترى أن القراء هم الذين يضعون معاني النص، وأن لهم الحق في إضفاء المعنى الذي تفرضه حاجاتهم النفسية على نص ما. والقارئ حرّ حرية تامة في خلق النص، وفي إعادة تركيبه بالشكل الذي يرتئيه. وهكذا لا تتحقق فاعلية الظاهرة الأدبية إلا بالقارئ، فهو شريك في إعادة خلق النص وإبداعه. والقراءة هي التي تضفي على الأثر الأدبي القيمة التي كانت محجوبة عن الأنظار، عندما تتجاوز به المعنى الحرفي إلى المعنى الكلي للتركيب اللغوي.‏
وكما يؤثر العمل الأدبي على قارئه، فإن القارئ يؤثر بدوره على العمل الأدبي، فكأنه يعيد خلقه من جديد.‏
وتؤكد الظاهراتية (الفينومينولوجيا) هذه الفكرة بمصطلحاتها (أفق التوقعات) و(تداخل الآفاق) حيث ترى أن القارئ ينتقل من (أفق الكاتب) دون أن يغادر (أفقه) كقارئ، ومن ثم فإنه يكسب النص الأدبي بعداً جديداً لم يكن له، نابعاً من ذات القارئ الشخصية وثقافته الفنية، وبالتالي فإن النص الأدبي يغتني بعدد القراء الذي يقرأونه. وبهذا يصبح النص الأدبي فعلاً متجدداً، عبر العصور والأمكنة، وهذه هي فكرة (خلود) الأدب التي تعني تجاوزه عصره، لامتلاكه مزايا فنية تؤثر في قرائه، رغم تعدد الأزمنة واختلاف البيئات. وهذا يعني امتلاكه سمتين أساسيتين: التوصيل الجيد، والتلقّي الفعال.‏
وبما أن نصوصية النص لا تتحقق إلا من خلال فعل القراءة، وفعل القراءة هو فك شفرة النص، فإن الحديث عن القارئ المتخيل يكتسب مشروعيته. والقارئ في هذه الحالة هو الذي ينتقل بين دوري المرسِل/ والمستقبل.‏
وعلى الرغم من أنه ليس من قراءة (بريئة) تماماً، فإن مستويات القراءة تتعدد بتعدد أحوال القراء، وبتعدد أحوال القارئ الواحد، وذلك بسبب تعدد ذخيرتهم الفنية والفكرية والإيديولوجية.‏
وبما أن (القراءة) حوار بين (النص) و(القارئ)، والقارئ هو الذي يملأ (ثغرات) النص و(انقطاعاته) بحيث يقوم باستكمال عملية الاستدلال على المعنى، فإن (الاستجابة) هي تجاوب المتلقي مع الإبداع الأدبي. وكلما قويت ثقافة المتلقي الفنية والعامة، قويت مشاركته في الفهم والاستيعاب، وحاز حبوراً عظيماً أمام الأعمال الفنية الخالدة، لأنها تخلّصه من التناقض بين الذات والمجموع، والواقع والمثال، وتتجاوز به إلى إبداع كون بديل متوازن ومنسجم.‏
وقد عانى كثير من الأدباء والفنانين من سوء الفهم والإهمال من قبل معاصريهم، فشبّه نيتشه الشاعر بالبحر الذي يلهو بحرير مروحته الفضية، بينما "الجواميس" تتطلّع إليه بروح المستنقعات، وقال كيركجارد: "أفضّل أن أكون راعي خنازير تفهمه الخنازير على أن أكون شاعراً يسيء الناس فهمه".‏
وكما تختلف الاستجابة من متلقّ إلى آخر، حسب ثقافته ومكوناته النفسية والجسمية والبيئية، فإنها تختلف حتى لدى المتلقي الواحد، تبعاً لنضج وعيه الثقافي والفني، ولا نغالي إذا قلنا إنها تختلف أيضاً لديه تبعاً للوقت الذي يقرأ فيه، فقراءة قصيدة عميقة لن تكون مجدية على فراش النوم. لذلك ينبغي اختيار أوقات القراءة، لأن الشعر- هذا الكائن الرهيف الحساسية- يتأذى حين نقرؤه دفعاً للسأم والملل، كما نقرأ خبراً عادياً في جريدة يومية. فنحن نقتل الشعر حين نقتل به الوقت، ولهذا يقول ت.س. إليوت: "إنني أتعب أكثر من عام حتى أنهي قصيدتي، ولا أقبل بحال من الأحوال أن يقرأها القارئ وهو في الترام أو في القطار. لقد خصصت عاماً من عمري لإبداعها، فليخصص ساعتين على الأقل لفهمها".‏
وبعض الكتب لا يُقرأ في كل الأوقات، ولا بد من التأهب والاستعداد النفسي للدخول في عالمه، وإلا فإن القراءة لن تنتج أكثر من خمسين بالمائة. إن تعب آخر النهار، وإرهاق الصيف مثلاً، لا يتيحان المشاركة الكاملة في قراءة مبدعة، كما أن تخلّف القارئ عن مستوى المبدع لا بد أن يعيق عملية الاستجابة. وإذا كان الشاعر التقليدي يفضّل أن يقدم لجمهوره لقمة مهضومة سائغة، ليريحه على وسادة المتعة، فإن الشاعر الجديد يؤثر أن يهزّ قارئه، ويقلقه، ويُضنيه، من أجل دفعه إلى المشاركة في عملية الإبداع الجديد للنص الأدبي.‏
وفي العمل الأدبي تتحكم عوامل الغياب، وتطغى على كل العناصر، ولا حضور إلا لعاملين فقط هما: النص، والقارئ، وهما يشتركان في صنع الأدب (أو الأدبية).(3)‏
فالنص ينتصب أمام القارئ كحضور معلق، والمطلوب من القارئ هو أن يوجد العناصر الغائبة عن النص، لكي يحقق بها للنص وجوداً طبيعياً أو قيمة مفهومة. ويعتمد النص على هذه الفعالية اعتماداً كاملاً، وبدونها يضيع النص.‏
وهذه الصلة يبن الحضور والغياب هي صلة حياة ووجود في النص. وقد شخّص تودوروف هذه الصلة بنظرية فنية استنبطها من حكايات (ألف ليلة وليلة) التي كان الخطاب فيها معادلاً للحياة، وعدمه هو الموت. وكلام شهرزاد هو الحياة، وسكوتها يعني موتها. فالخطاب هنا هو (الهوية)، وهو سبب الوجود، وليس الموت سوى انعدام القدرة على النطق. وهذا ما أوجد تشابهاً بين الكلمة والرغبة، فالكلمات تتضمن غياب الأشياء تماماً مثلما تمثل الرغبات غياب المرغوب فيه.(4)‏
ومن هنا يأتي (الاختلاف) في النص الأدبي كقيمة أولى من حيث اختلاف لغة النص عن اللغة العادية. واختلاف الحاضر منها عن الغائب، كاختلاف الحياة عن الموت، والحلم عن الواقع. وهذا الاختلاف في النص يكون كمساحة من الفراغ تمتد بين طرفي عناصر الحضور وعناصر الغياب، وعلى القارئ أن يقيم الجسور فيما بينها ليعمر هذا الفراغ. وهذا هو التفسير وهو فعالية القراءة الأدبية التي تهدف إلى تأسيس المعنى المفقود الذي يدعم كل المعاني ويجعلها ممكنة. إنه البحث عن الحقيقة الخالصة التي قال عنها شتراوس: "إن الحقيقة الخالصة ليست هي الأكثر ظهوراً. وطبيعة الحقيقة مبرهنة فيما توليه من عناية لإخفاء نفسها".(5)‏
وعملية استحضار الغائب تفيد في تحويل القارئ إلى منتج للنصوص، مما يجعلها مضاعفة الجدوى. فهي من ناحية تثري النص إثراءً دائماً باجتلاب دلالات لا تُحصى إليه، ومن ناحية أخرى تفيد في إيجاد قراء إيجابيين يشعرون بأن القراءة هي عمل إبداعي.‏
ومن هنا يأتي تفسير النص كوصف نقدي له، لا للنص كجوهر، ولكن لفهمنا للنص، أي أنه وصف للعلاقة بيننا وبين النص. وهذه العلاقة هي تجربة إنسانية تصدر عن التقاء القارئ بالنص، وهي تشبه نشوء الكتابة وارتباطها بالتجربة الإنسانية، وهذا ما يجعل (القراءة) إبداعاً مثلما هي (الكتابة). ولذا فإنه لا سبيل إلى إيجاد قراءة (موضوعية) لأي نص. وستظل القراءة تجربة شخصية، كما أنه لا سبيل إلى إيجاد تفسير واحد لأي نص، وسيظل النص يقبل تفسيرات متعددة ومختلفة، بعدد مرات قراءته. وبهذا تصبح القراءة فعالية أدبية، ويضمن النص حقه في أن يكون فعلاً أدبياً وليس قولاً إخبارياً، وعملية إحضار عناصر الغياب إلى النص هي محاولة لكتابة تاريخ ذلك النص. ذلك أن لكل كلمة في النص تاريخاً يقف في مستودعها، وهو تاريخ ماضيها مثلما هو تاريخ مستقبلها.‏
والواقع أن القارئ هو مفتاح الأثر الأدبي الخالد الذي لا يستمر خلوده إلا لأنه يظل قادراً على إحداث ردود فعل واقتراح تأويلات لدى القراء. فخلود الآثار الأدبية يأتي من فاعليتها في نفوس القراء، في كل زمان ومكان. يرى رولان بارت أن الأثر الأدبي لا يحظى بالخلود لأنه يفرض على القراء العديدين معنى واحداً، وإنما لأنه يقترح على القارئ الواحد معاني عديدة. وإن عدد القراءات ليس محدوداً، فإمكانياته هي إمكانيات اللغة في التعبير، وهي إمكانيات لا حدّ لها ولا حصر. ولهذا طالب الأدباء المعاصرون قراءهم بتناول الآثار الأدبية، لا بالانبهار السريع، وإنما بالجدية الفاحصة التي يمكن أن تكتشف معاني عديدة. ذلك أن (النص) المفتوح يقبل التأويلات العديدة، وكل ما يزيد النص غنى وثراء، ومن هنا صدق كلمة فاليري: "إن لأشعاري المعنى الذي تُحمل عليه".‏
ولقد عني نقدنا القديم بالمتلقي، وهدف إلى تحقيق المعنى من خلال رؤية المتلقي، وعلى الخصوص في ميدان الخطابة التي تقوم على التأثير في المتلقي وإقناعه. فوضعوا للخطيب شروطاً ينبغي أن تتوافر فيه كي يكون مؤثراً على مستمعيه، منها: (مراعاة مقتضى الحال)، فإذا لمس من جمهوره انصرافاً أو مللاً، غيّر موضوعه أو صوته، فجاء بما يلفت الاهتمام والانتباه. كما وضعوا للشعر شروطاً وخصائص، يقول ابن طباطبا: "فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً، مصفّى من كدر العي، مقوّماً من كدر الخطأ واللحن، سالماً من جور الأليف، موزوناً بميزان الصواب، لفظاً ومعنى وتركيباً، اتّسعت طرقه، ولطفت موالجه، فتقبله الفهم، وارتاح له وأنس به، وإذا ورد عليه ضد هذه الصفة وكان باطلاً محالاً مجهولاً انسدت طرقه، ونفاه واستوحش عند حسه به، وصدئ له، وتأذى به كتأذي سائر الحواس بما يخالفه".(6)‏
ومنها (اتساع طرق الحديث) الذي يعني- عند ابن رشيق-: "حذف بعض الكلام يدل على الباقي. والباقي يدل على الذاهب، وهذا معدود من أنواع البلاغة، لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب. وكل معلوم هو هيّن لكونه محصوراً".(7)‏
وقد كان تأثير الشعر على مستمعيه كبيراً، فقد كانت القبائل تقيم الولائم والأفراح، إذا ما نبغ فيها شاعر، لأنه المحامي عن أعراضهم، والناشر لمحامدهم ومآثرهم. وقد قيل إن الفرزدق كان يسجد إذا ما سمع بيتاً جميلاً من الشعر، ويقول: هذه سجدة الشعر. وكثيراً ما نجد في تراثنا النقدي عبارات من مثل: (العقل الصحيح)، و(الفهم الثاقب)... تشير إلى القارئ الذي جمع مزايا الثقافة والدربة. وقد طالب المرزوقي في مقدمته لشرح (ديوان الحماسة) بقارئ (فائق) يمتلك الصفات السابقة.‏
أما القصور في التأثير فقد يكون ناجماً عن العجز في التوصيل من قبل الشاعر، أو عجز القارئ عن متابعة المبدع والرقي إلى مستواه الفني. وقد تعرّض أبو تمام لمثل هذا عندما سأله أحدهم: لم لا تقول ما يُفهم؟ فردّ عليه بذكاء: ولمَ لا تفهم ما يُقال؟. وبالمقابل فإن المتلقي قد يصحّح للشاعر بعض أخطائه. وأمثلتها عديدة، منها قصة إقواء النابغة، ومنها قول أحدهم: "علينا أن نقول وعليكم أن تصوّبوا". ومنها عدول المادح عن الفضائل النفسية إلى الصفات الجسمية، كما قال ابن قيس الرقيات في عبد الملك بن مروان:‏
يأتلق التاجُ على مفرقه على جبين كأنه الذهبُ‏
فغضب عبد الملك وقال: قد قلت في مصعب:‏
إنما مصعبٌ شهابٌ من اللـ ـه تجلّت عن وجهه الظلماءُ‏
فأعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم، وأعطيتني من المدح ما لا فخر فيه.(8)‏
وقد أشار الآمدي إلى اختلاف الناس في التذوق، وأرجعه إلى معيار فني أو فكري، وذلك في مجال (الموازنة) بين مدرستي (الطبع) التي رأسها، في عصره، البحتري، ومدرسة (البديع) التي رأسها أبو تمام، فقال: "فإن كنت- أدام الله سلامتك- ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق فالبحتري أشعر عندك ضرورة. وإن كنت تميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة ولا تلوي على غير ذلك فأبو تمام عندك أشعر لا محالة.(9)‏
وليس بعد ذلك أوضح من الاهتمام بالمتلقي. وهكذا عني الدرس النقدي عند العرب بالتلقي، فبيّنوا مدى تأثير النص، وكيفية تأثيره، والعوامل المساعدة في زيادة تأثيره. وسلوك المتلقي واستجابته. كما اهتم الشعراء بتوصيل أشعارهم إلى الجمهور، وحاولوا تحطيم الحواجز القائمة بين الشعر والجمهور، وشاركهم في ذلك النقاد الذين لخصوا معاني الأدب، وقدموها لقمة سائغة للقراء. وقد اشترط حازم القرطاجني لإحداث التأثير المطلوب أن يكون الشاعر مدركاً لطريقته في القول الأدبي: "والذي تقبله النفس من ذلك ما كانت المآخذ فيه لطيفة، وذلك أن ينزع بالكلام إلى الجهة الملائمة لهوى النفس من حيث تسرّها أو تعجبها أو تشجوها".(10)‏
وجعل ابن طباطبا استجابة المتلقي نتيجة لما يحققه الشاعر من رغبات القارئ، فقال: "والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق بما يخالفه، ولها أحوال تتصرف بها. فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزّت له وحدثت لها أريحية وطرب، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت... وليست تخلو الأشعار من أن يتقصى فيها أشياء هي قائمة في النفوس والعقول، فيحسن العبارة عنها، وإظهار ما يكمن في الضمائر منها، فيبتهج السامع لما يرد عليه مما قد عرفه طبعه، وقبله فهمه، فيُثار بذلك ما كان دفيناً، ويبرز به ما كان‏
مكتوماً".(11)‏
ويؤكد ابن طباطبا أثر الشعر في نفوس متلقيه بأنه "يسلّ السخائم، ويحلّ العقد، ويسخّي الشحيح، ويشجع الجبان"(12). كما يؤكد أسامة بن منقذ أن الشعر "يستفز القلب، ويحمي المزاج في استحسانه".(13). ويعلل ابن طباطبا استجابة متلقي الشعر بقوله: "والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه، ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله وتكرهه لما ينفيه، إن كل حاسة من حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له، إذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً، باعتدال لا جور فيه، وبموافقة لا مضادة معها: فالعين تألف المرأى الحسن، وتأذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل الشم الطيب، ويتأذى بالمنتن الخبيث، والفم يلتذ بالمذاق الحلو، ويمج البشع المر، واليد تنعم بالملمس اللين الناعم وتتأذى بالخشن المؤذي، والفهم يأنس من الكلام العدل والصواب... فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً، مصفى من كدر العي، مقوماً من أود الخطأ واللحن، سالماً من جور التأليف... اتسعت طرقه ولطفت موالجه فقبله الفهم وارتاح له وأنس به. وإذا ورد عليه على ضد هذه الصفة، وكان باطلاً محالاً‏
مجهولاً، انسدت طرقه ونفاه واستوحش عنه حسه به".(14)‏
وهكذا تبدو الحواس، عند ابن طباطبا، هي التي تستمتع بآثار الجمال الشعري.‏
كما ركز نقادنا القدماء على أسلوب الدخول إلى وعي المتلقي: فقال ابن طباطبا: "إذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازَجَ الروح، ولاءم الفهم. وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيباً من الرقى، وأشد إطراباً من الغناء، فسلّ السخائم، وحلل العقد، وسخّى الشحيح، وشجّع الجبان، وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه وهزّه وإثارته".(15) وبهذه الأوصاف يحدث التأثير الشعري في نفوس المتلقين. وهذا هو التأثر الذاتي.‏
وهناك تأثير جماعي، حيث يعبر مجتمع ما في فترة زمنية، عن قبوله هذا النوع من الأدب أو ذاك. فإذا تجاوز المجتمع هذه المرحلة الزمنية، تجاوز الأدب النوع الأدبي إلى نوع آخر جديد. هكذا تطورت الملحمة مثلاً إلى الرواية في العصر البرجوازي الحديث، لأن الملحمة كانت تعبيراً أدبياً عن مجتمع الفرسان والأبطال، فجاءت الرواية لتعبر عن المجتمعات البرجوازية وإنسانها الأناني المنعزل. كما قد تبدع المرحلة الزمنية جنساً أدبياً جديداً، فالقصة القصيرة مثلاً لم تكن معروفة في العصور القديمة، وإنما أبدعها العصر الحديث لحاجة أفراده إلى التعبير عن معاناتهم الذاتية في لحظة زمنية. كما تم التحول من المسرح الشعري في العصور القديمة إلى المسرح النثري في العصر الحديث، استجابة لمتطلبات المجتمعات الحديثة.‏
وقد علل النقاد القدماء استجابة المتلقي، وتذوقه الجمالي، ولماذا يؤثر هذا النص في المتلقي، ولا يؤثر نص آخر معادل له في الجودة إذا اكتملت شروط الصياغة والحسن في كليهما؟ فقال اسحق الموصلي: "إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تؤديها الصنعة". وقال القاضي الجرجاني: "وأنت ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، تستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلم بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم، وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت، لهذه المزية سبباً".(16)‏
وهكذا يقف نقادنا القدماء عند سر استجابة المتلقي لبعض النصوص على الرغم من أن نصوصاً أخرى قد تفوقها جمالاً، ولكنها لا تمتلك ما تمتلكه هذه النصوص من آيات الحسن والجمال. فيحجمون عن تعليل هذه الظاهرة الجمالية قائلين: "ثم لا تعلم لهذه المزية سبباً". ولعل السبب هو أن المتلقي يضيف إلى النص من مخزونه الثقافي والفني ما يجعله حسناً في ذهنه، وهذا هو (أفق التوقع أو الانتظار) الذي قال به ياوس.‏
4- نظرية القراءة:‏
ما هي القراءة؟ وكيف نقرأ؟‏
يصعب تحديد مفهوم القراءة، ذلك أن (القراءة) مصطلح بعيد عن التحديد والانضباط، وهي تتراوح بين تهجي الحروف وقراءة الأدب، عبر مستويات متعددة: فقارئ التسلية يُعد قارئاً، وكذلك قارئ الروايات البوليسية، وقارئ الفلسفة، وقارئ الكتاب المدرسي. ولكن نتائج هذه القراءات تختلف. ومع تسليمنا بضرورة القراءة في أي مجال كان، وفي أي زمان ومكان، فإننا ندعو إلى (القراءة الفاحصة) الصبورة، المتأملة، الكاشفة عن القيم اللغوية والوضعية في النص الأدبي، وعن الرموز المستخدمة فيه، وعن المعنى الحقيقي الكامن في النص، وعندئذ نكون قد امتلكنا النص، بعد أن يكون هو قد امتلكنا في مرحلة القراءة، وبالطبع فإن هذه القراءة الصعبة ينبغي أن تُرفد بثقافة واسعة.‏
هكذا يمكن القول إن القراءة إذا لم تتم على نحو من التأمل، والشرود، والتذكر، والتداعي، فهي ليست أكثر متتبع للسواد على البياض، أو التقاط لأفكار النص فحسب، والمطلوب هو أن تكون الكلمات المكتوبة محرضاً ومثيراً لانطلاق الفكر والذهن في آفاق المعرفة وراء تفرعات الموضوع، أما الاكتفاء بما هو مكتوب، فليس أكثر من قراءة أحادية تستمد دون أن تتفاعل، وتذخر من أجل قراءات مستقبلية.‏
وبما أن (القراءة) تفاعل بين القارئ والنص، و(النص) الأدبي رسالة تخييلية متبادلة بين الكاتب والقارئ، فإنها تحتاج إلى ترميز خاص في مستوى الكتابة، وإلى تفكيك في مستوى الفهم والتأويل. ويقوم هذا التفاعل على أساسين: أساس موضوعي يتمثل في ما يمنحه النص من علامات ودوال تكوّن المقروء، وأساس ذاتي يتمثل في ما تمنحه الذات القارئة من فهم وإدراك لهذه العلاقات والدوال، وما تثيره فيها هذه القراءة من ردود فعل جمالية تستمد من ذخيرة القارئ ومخزونه الثقافي والأدبي.‏
وهكذا تمتد دينامية القراءة عبر مستويات متداخلة، منها: مستوى النص نفسه كعلاقات داخلية (النصية)، ومستوى النص وتفاعله مع النصوص الأخرى (التناص)، ومستوى تفاعلات النصوص مع محيطها الاجتماعي والثقافي (التداولية).‏
إن (القراءة) الواعية للنص الأدبي هي وحدها القادرة على سبر كوامنه، عن طريق تفكيك جسد النص، من أجل إعادة بنائه من جديد، وبشكل آخر. ومثل هذه القراءة، وإن اعتمدت التذوق الجمالي، فإنها ترفض الانطباعية الساذجة، وتعتمد الموضوعية، من أجل اكتشاف جماليات النص ومفاتنه. ولهذا يمكن القول إن (القراءة النقدية) تمرّ بالخطوات التالية:‏
1- القراءة العامة لكل أعمال الأديب. وهي قراءة تذوق واستكشاف.‏
2- القراءة التذوقية المصحوبة بالملاحظات التي ترصد النوى الأساسية في النص.‏
3- القراءة النقدية التي تدرس (نماذج) العمل الأدبي ووحداته.‏
ونماذج الاستيعاب القرائي ثلاثة:‏
1- نموذج (موضوعية النص)، حيث يتم تعريف القراءة بأنها استخراج المعاني من النص، وكأنما أفكار الكاتب جاهزة للاستخراج، وما على القارئ إلا أن يمد يده فيلتقطها، وقد سُمّي هذا النموذج بالتصاعدي. لأنه ينظر إلى القراءة كعملية تسير من الأسفل إلى الأعلى، أي من النص إلى ذهن القارئ. ومن خصائص هذا النموذج أنه يعتمد على (الموضوعية)، ويبعد ذاتية القارئ.‏
2- نموذج (ذاتية القارئ)، ويقوم على تفسير الاستيعاب القرائي من خلال المعرفة القبلية التي يوظفها القارئ في هذه العملية، على حساب النص وخصائصه. ومن أعلامه فرانك سميث F. Smith الذي يعرّف فعل القراءة بأنه عملية صب المعاني في النص، وليس العكس. وأن القراءة ليست بصرية إلا عن طريق الصدفة، فهي تتم وراء العينين، وأن الفهم القرائي تقوده (النظرية) التي توجد في ذهن القارئ. وقد أسهمت في بلورة هذا النموذج حركة النقد المعروفة بالنقد المبني على ردود فعل القارئ. وفي سياق هذه الحركة ظهر مذهب الذاتية في التعامل مع النص، ويتجلى هذا المذهب عند هولاند Holland، وفيش Fish، وغودمان Goodman. ولكنه جوبه بانتقادات عديدة، منها أنه يُبنى على غياب النص في عملية الفهم، ويوحي بحرية القارئ في فهم ما يشاء، وبعدم رؤية العناصر الفنية للنص الأدبي، وبتوظيف المعرفة المسبقة... الخ.‏
3- (النموذج التفاعلي) الذي جاء رداً على النموذجين السابقين المتطرفين. ويتميز هذا النموذج بأنه يعتبر كلاً من النص والقارئ طرفين متفاعلين في الفهم وتوليد المعاني وتأويل النص. ويعتمد هذا النموذ (نظرية التصميم) Schema المعرفية التي تبرز أهمية المعرفة التي يتوافر عليها النص والقارئ، وتتضمن هذه النظرية مسلّمات أهمها: إن الفهم يتأثر بالمعارف المتوافرة مسبقاً لدى القارئ، وبسياق القراءة (الموقف)، وبهدف القراءة (معرفة العالم، وبنية الخطاب)، وبنظام القراءة (معرفة النظام الكتابي، والتركيبي، والدلالي).‏
ولا يزال الاعتقاد السائد عند كثير من معاصرينا أن (المعنى) يسكن النص وكأنه مادة غامضة، أو عمق ذلك الكيان العجيب الذي يسمى (شكلاً) والذي يقوم فعل القراءة بكشف الحجاب عنه. ولكن (المعنى)، في نظرية القراءة المعاصرة هو نتيجة للقاء بين نصين: النص المقروء ونص القارئ. وهكذا تتداخل في نظرية القراءة ثلاثة حقول هي:‏
1-(النص): باعتباره مجموعة من الدوال التي ينبغي تأويلها. ذلك أن النص لا وجود له إلا بوجود القراءة، وأن التأويل لا يبدأ إلا بعد أن يستحوذ القارئ على النص. ويرى (ميشيل اوتان) M. Otten(17) في مقاله (سيميائية القراءة) أن ما يحسن تحديده في النص يتمحور حول قطبين هما: مواضع اليقين، ومواضع الشك. أما مواضع اليقين فهي الأمكنة الأكثر وضوحاً وجلاء في النص، وهي التي ينطلق منها القارئ لبناء التأويل. وتختلف مواضع اليقين باختلاف العصور الأدبية، وباختلاف سياقات التلقي. ويضع (اوتان) مقترحات عامة لتمثيل مواضع اليقين تتجسد في النقاط التالية:‏
أ-العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية، فهي متعددة الدلالات، وتشكل منطلقات قراءة ضرورية.‏
ب-الإشارات إلى الجنس الأدبي: رواية، حكاية، قصة... الخ. وهذه الإشارات تستدعي قدرة القارئ اللغوية والبلاغية والثقافية، وتقترح ميثاقاً للقراءة، وتحدد (أفق التوقع) الذي يمكن أن يتم تأكيده أو نفيه.‏
ت-متتاليات الوحدات السيميائية التي يمكن فهمها من خلال علاقة تشابه (تكرار الكلمة نفسها، أو الكلمات ذات الجذر الواحد، والمترادفات).‏
ث-الوحدات النصيّة الأكثر اتساعاً مثل: الإرصاد. وأما مواضع الشك فتبدأ من الغموض الشفاف إلى الإبهام المعتم. وهي تضع القارئ في موقف محرج يدفعه إلى التدخل، أو إلى اقتراح الفرضيات، وهي تتيح إظهار مكامن النص المتعددة، وعرض التأويلات المختلفة. ومواضع الشك متنوعة فهي نقاط غامضة، ورموز مبهمة، وتداعيات ملغزة، وتراكيب ملتبسة، وإلماعات ضمنية، وبياض، وانقطاعات، وحذف، وعدم تتابع، ومفارقات، وتعارضات.. الخ.‏
2-(نص القارئ): المكوّن من نصوص سابقة ومعاصرة، ومن رموز لامتناهية، أصلها موجود أو مفقود. فكل معارف القارئ ورموزه ورغباته تشترك في عملية التأويل التي تعقب القراءة.‏
وإذا كان التصور الكلاسي للقارئ يركز على ضرورة السيطرة على الرمز اللغوي، فإن المنظور المعاصر للقراءة يُظهر قصور هذا الموقف، على اعتبار أن لغة الأدب هي لغة (رمزية) يشيع فيها الاستشهاد والمحاكاة، وأن القارئ مدفوع إلى استخدام مجموعة غير محددة من الرموز الثقافية التي تشكل جزءاً كامناً في (نص القارئ). وهكذا يشمل (نص القارئ):‏
أ- رموزاً ثقافية، وصوراً أو سرديات أسطورية، وكليشات أدبية، وإلماعات، وترسيمات... الخ.‏
ب- معرفة المتطلبات والبرامج الخاصة بالأنواع الأدبية الرئيسية والفرعية، القديمة والمعاصرة.‏
ت- جدولاً غنياً بالبنى النصية المجردة.‏
ث- إمكانيات طرق المنطق المختلفة التي يمكن استخدامها في العمل الأدبي، لكي تتم القراءة الجيدة لمختلف النصوص.‏
3- (العلاقة بين النص والقارئ): فمن خلالها يتم توضيح هذا اللقاء، واستخلاص النتائج، وتفسير الدلالات. وفهم أي نص يقتضي فرضية تتضمن أن هناك معرفة ضمنية بالنص، أو بمجموعة من النصوص السابقة، المقروءة والمفهومة من قبل. وللقراءة جانبان: وجداني، وإدراكي. وقراءة العمل الأدبي تتم بمشاركة هذين الجانبين. ومعلوم أننا لا نستطيع أن نستمر في قراءة العمل الأدبي إذا لم نشعر بشيء من (الاندماج) الوجداني معه، ونحس بأننا مشاركون فيه، كمعجبين أو ساخطين. وهذه المشاركة (الوجدانية) هي (إدراك) في الوقت نفسه.‏
وقد أجرى نورمان هولاند بحثاً تجريبياً في (خمسة قراء يقرأون) على مجموعة من طلاب المرحلة الجامعية الأولى المتخصصين في اللغة الانكليزية. فأعطاهم عشر قصص قصيرة ليقرأوها، وناقشهم فيها، وسجّل هذه المناقشات. وكانت أسئلته تدور حول (شعور) القارئ نحو: الشخصية، والحادثة، والموقف، والعبارة.‏
ثم أجرى اختباراً في قياس (الشخصية) لطلابه الخمسة لاكتشاف (قوام الشخصية) لدى كل منهم وقوام الشخصية يعني عنده العنصر الثابت الذي يوجّه كل ما يقوله الإنسان أو يفعله. فانتهى إلى أن القارئ يستجيب للعمل الأدبي بتمثيله لحركته النفسية الخاصة، أي ببحثه عن حلول ناجعة، في حدود قوام ذاتيته للمطالب المتعددة: الداخلية والخارجية، على الأنا. ورأى أننا نتعامل مع الأدب لنعيد خلق ذاتيتنا.‏
تتعدد مستويات القراءة من قارئ إلى آخر، حسب ثقافة القارئ الفنية، وخبرته الجمالية، حتى لقد قيل إن هناك عدداً من القراءات يساوي عدد القراء أنفسهم، بل إن بعضهم ليذهب إلى أن القارئ الواحد نفسه يقدم في كل قراءة قراءة جديدة تختلف عن قراءاته الأولى، وذلك بحسب الزمان والمكان والسن. ويؤكد تودوروف أن القراءة كفعالية موضوعها النص وهدفها إظهار أنساقه وبنياته، ووظيفتها ينبغي ألا تقتصر على تقديم اهتمام متساو بجميع عناصر النص، بل ينبغي أن تعطي اهتماماً أكثر لبؤر النص المهيمنة، لا انطلاقاً من موقعها في نفس المؤلف، أو اعتماداً على معايير خارجية، وإنما من دورها في النص الأدبي.‏
وإذا كان الأدب نصاً وقارئاً، فإن النص وجود مبهم كحكم معلق، ولا يتحقق هذا الوجود إلا بالقارئ ومن هنا تأتي أهمية القارئ، وتبرز خطورة القراءة كفعالية أساسية لوجود الأدب. فالقراءة هي عملية تقرير مصيري بالنسبة للنص. ومصير النص إنما يتحدد حسب استقبال القارئ له. والقراءة فعالية ثقافية ذات نوعية هامة، وما دام ينتج عنها تقرير مصير النص فإن من الضروري أن نعرف أنواعها التي تستطيع تحقيق مهمتها بقدر من الكفاءة يؤهلها للحكم الصحيح.‏
ولعل إسهام تودوروف في مقالة (كيف نقرأ؟)(18) لا يقل عن إسهام بارت في هذا المجال. وقد عرض تودوروف ثلاثة أنواع من القراءة هي:‏
1- القراءة الإسقاطية Projective: وهي نوع من القراءة التقليدية، لا ترتكز على النص، ولكنها تمرّ من خلاله، ومن فوقه، متجهة نحو المؤلف، أو المجتمع، وهي تعامل النص كأنه وثيقة لإثبات قضية شخصية أو اجتماعية أو تاريخية. والقارئ فيها يلعب دور المدعي الذي يحاول إثبات التهمة.‏
2- قراءة الشرح أو التعليق Commentary: وهي قراءة تلتزم بالنص، ولكنها تأخذ منه ظاهر معناه فقط، وتعطي المعنى الظاهري حصانة يرتفع بها فوق الكلمات. ولذا فإن شرح النص فيها يكون بوضع كلمات بديلة أو تكريراً ساذجاً يجتر نفس الكلمات، بخلاف القراءة التي تقوم على عبور النص إلى ما وراءه.‏
3-القراءة الشاعرية Poetica: وهي قراءة النص من خلال شفراته، بناء على معطيات سياقه الفني. والنص هنا خلية حية تتحرك من داخلها، مندفعة بقوة لا ترد لتكسر كل الحواجز بين النصوص. والقراءة الشاعرية تسعى إلى كشف ما هو في باطن النص، لتقرأ فيه أبعد مما هو في لفظه. وهذا ما يجعلها أقدر على تجلية حقائق التجربة الأدبية، وعلى إثراء معطيات اللغة.(19)‏
وإذا وسّعنا دائرة القراءة، وجعلناها مرادفة للمنهج النقدي، كان لدينا منها الكثير: القراءة الألسنية، والأسلوبية، والبنيوية، والسيميائية، والرمزية، والتفكيكية... الخ.‏
وهكذا تبدو القراءة جهداً تحويلياً يتمثل الرموز والعلامات. وتبدو القراءة العميقة التي تبغي التفسير اجتهاداً وانتهاكاً، ويبدو النص غير ذي وجود بمعزل عن القارئ الذي يعطيه قيمته عندما يفك مغاليقه. لقد أصبح للقراءة ثقلها في إبراز هوية النص وتجسيد بنيته. فالنص نداء، والقراءة تلبية لهذا النداء. وقد تدرج الاهتمام بالقراءة من مركزية مؤلف النص وعصره، ومن تصور القارئ مستهلكاً للنص في المناهج النقدية التي تدرس الأدب من خارجه، إلى نقل هذه المركزية إلى النص وحده، لينفعل به القارئ، كما في المناهج النقدية ما بعد الحداثية، تلك التي لم تعد ترى القراءة مسحاً بصرياً للنص أو تفسيراً معجمياً لألفاظه، أو استنباطاً لمعانيه، وإنما هي فعل خلاق ونشاط إبداعي كالكتابة نفسها.‏
لقد جاء الاهتمام بالمتلقي ودورة الفاعل في إبداع نص أدبي جديد رد فعل على هيمنة المؤلف في المناهج النقدية القديمة، وعلى سلطة النص في المناهج النقدية المعاصرة، فتنبه نقاد (ما بعد الحداثة) إلى أهمية القارئ، على الرغم من أن بذور هذا الاهتمام قد وجدت قبل هذا لدى ت.س. إليوت الذي يقول: "إن وجود القصيدة هو في منطقة ما بين الشاعر والقارئ".(20)، ولدى سارتر الذي شبّه العمل الأدبي بخذروف دوار بين المؤلف والقارئ.(21) ورأى أن القارئ يكشف ويخلق في الوقت نفسه، فيكشف بوساطة الخلق، ويخلق بوساطة الكشف. والعمل الأدبي بالنسبة للقارئ معين لا ينضب. والقارئ يقرأ ويعيد القراءة دون أن يمسك بالمقروء بشكل نهائي. والعمل الأدبي ذاته قابل للخلق بوساطة القراءة. ودون قراءة يظل العمل الأدبي مجرد علامات على الورق.‏
وقد أولى النقاد المعاصرون القراءة أهمية قصوى لأنها المدخل إلى المقروء، وبتأثير من فلسفة الجمال الظاهراتية دعا نقاد (نظرية التلقي) في منتصف العقد السابع من القرن العشرين، إلى تفاعل القارئ مع النص.‏
5-القراءة والسياق:‏
القراءة نشاط مختلف الأنواع، وكثير من القراء يعاملون الكتاب كعود ثقاب، أو كتذكرة ركوب القطار، يستعمل مرة واحدة، ثم يُلقى به في سلة المهملات. وقليل من القراء من يعاود قراءة الكتاب، وعلى الخصوص بعد أن أصبح الكتاب هامشياً في عصر الفضائيات والمعلوماتية والتجارة. فصار المرء ينبذ الكتاب، ويتمدد على أريكته في منزله، مرتاحاً ومرتدياً منامته، يطوف العالم بالصوت والصورة، دون أن يجهد نفسه، أو يُرهق عينيه وخياله بقراءة كتاب. إن الحماية الحقيقية للنص هي (السياق). والمعرفة التامة بالسياق شرط أساسي للقراءة الصحيحة، ولا يمكن أن نأخذ قراءة ما على أنها صحيحة إلا إذا كانت منطلقة من مبدأ السياق، لأن النص توليد سياقي ينشأ عن عملية الاقتباس الدائمة من المستودع اللغوي، ليؤسس في داخله شفرة خاصة به تميزه كنص، ولكنها تستمد وجودها من سياق جنسها الأدبي. والقارئ حر في تفسير هذه الشفرة وتحليلها، ولكنه مقيد بمفهومات السياق. فالشفرة الشعرية لا يجوز أن تفسر بمفهومات السياق الروائي مثلاً، ولكننا نستطيع أن نفسر تلك الشفرة حسب ما توحي به أصول جنسها الأدبي، وذاك لأن النص ليس عملاً معزولاً يقف عارضاً نفسه ومعناه على قارئه، ولا يحتاج القارئ لشيء سوى إجادة قراءة الحروف، فكأنه ليس سوى مستهلك أدبي للإنتاج اللغوي. بيد أن الأمر ليس كذلك، فالقراءة الأدبية ليست فعالية سلبية، أو تلقياً آلياً من قبل القارئ، وكأنما هو وعاء لا دور له سوى استيعاب ما يُصب فيه. فالقارئ الحق لم يعد يقبل هذا الدور، لأنه يمثل حصيلة ثقافية واجتماعية ونفسية تتلاقى مع الكاتب الذي هو أيضاً يمثل نفسه وعصره بعلومه وحضارته. فالنص هو ملتقى هاتين الثقافتين. وقد صاغ الكاتب نصه حسب معجمه اللغوي. وكل كلمة في هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً، وعى الكاتب بعضه، وغاب عنه بعضه الآخر. ولكن ما غاب عن ذهن الكاتب لم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخها..‏
والقارئ عندما يستقبل النص فإنه يتلقاه حسب معجمه هو. وقد يمده هذا المعجم بتاريخ للكلمات مختلف عن تلك التي وعاها الكاتب حين أبدع نصه. ومن هنا تتنوع الدلالة، ويتمكن من اكتساب قيم جديدة على يد القارئ،وتختلف هذه القيم وتتنوع بين قارئ وآخر، بل عند القارئ الواحد في الأزمنة المختلفة. وكل هذه التنوعات هي دلالات للنص حتى وإن تناقضت مع بعضها بعضاً. وهذه المقدرة الثقافية لا تتهيأ إلا للقارئ الصحيح، وهي ما يمكن تسميته بالمخزون النفسي لتاريخ سياق الكلمات، أو (السياق الذهني) للقارئ الذي يملك وحده هذه المهارة. أما مَنْ قصر عن بلوغ هذا المستوى من الوعي القرائي، فإنه لا أمل يُرجى منه في تفسير نص أدبي. والعيب عندئذ ليس في النص، ولكن في القارئ.‏
فالقراءة- إذاً- هي عملية دخول إلى (السياق)، وهي محاولة تصنيف النص في (سياق) يشمله مع أمثاله من النصوص التي تمثل (أفقية) فسيحة للنص المقروء تمتد من قبله، وتفتح له طريقاً إلى المستقبل. والنص لا يحمل معناه وقيمته كجوهر ثابت فيه، ولكن القارئ هو الذي يمنح النص وجوده ومعناه.‏
هكذا تبدو القراءة هي الإنجاز الفعلي للنص، وبدون القراءة لا حياة للنص. فالقارئ هو الذي يعطي النص شهادة الحياة، وهو الذي يقر للنص بالسمة الإبداعية، ولهذا اعتبر ياكوبسون القارئ هو المقياس الأول في تعريف النص بما يحصل لديه من إثارة يكون سببها النص كعامل استفزاز يحرك استجابات ملائمة...‏
وإذا كان النص مجموعة من الكلمات الملقاة كالجثث على سطح الورق، فإن القراءة الواعية هي التي تدرك أبعاد طبقات النص، وباعتبارها إبداعية فإنها هي التي تنفخ في بنية النص حرارة الروح مسلحة بالعقل، وهادفة إلى اقتناص المعرفة والمتعة... ولهذا تعددت القراءات للنص الواحد، حيث يجد فيه كل قارئ ما لا يجده القارئ الآخر، لاختلاف التكوين الثقافي ومرجعية واهتمامات كل قارئ عن القارئ الآخر. ومن هنا وجدنا، في تراثنا النقدي قراءات عديدة للشعر: القراءة اللغوية، والنحوية، والأسلوبية، والمضمونية...‏
هكذا يبدو النص (نتاجاً) لفعل ولعملية إنتاج من جهة، وأساساً لعمليات تلق داخل نظام من التفاعل والتواصل. وهذا التواصل الأدبي يقع في (سياق) تداولي ومعرفي وسوسيوثقافي يحدد الممارسة النصية. ويكون (السياق) بحسب المتلقي ودوره وثقافته.‏
في كتابه (النص والسياق) 1977 يحدد فان ديك V.Dijk الفرق بين (النص) و(الخطاب) من خلال الجوانب التداولية والدلالية، (فالخطاب) هو فعل الإنتاج اللفظي، بينما (النص) هو مجموع البنيات النسقية التي تتضمن الخطاب وتستوعبه. وإن (الخطاب) هو الموضوع المجسد أمامنا كفعل، بينما (النص) هو الموضوع المجرد والمفترض. ويرى أن اللسانيين إذا كانوا قد اعتبروا (الجملة) أعلى وحدة قابلة للوصف اللساني، وأن (النص) هو تركيب من جمل عديدة، فإن على الوصف اللساني أن يتناول كل جملة على حدة، ناقضاً بناءها، ومعيداً تركيبها من جديد، من أجل تأويله. ونقض النص يعني تحليله من خلال مستوياته: الصوتية، والتركيبية، والدلالية...‏
6-مستويات القراءة:‏
كثرت، في الآونة الأخيرة، قراءات نقادنا، وتعددت، بسبب مثاقفتهم. فمضى كل منهم يعتبر المنهج النقدي الذي يتبناه في تحليل النصوص الأدبية، مجرد "قراءة". هكذا عرض محمد عابد الجابري في مقدمة كتابه (الخطاب العربي المعاصر) 1985 ثلاثة أنواع من القراءة هي:‏
1-القراءة الاستنساخية: التي تقف عند حدود التلقي المباشر، وتجتهد في أن يكون هذا التلقي بأكبر قدر من "الأمانة"، أي بأقل تدخل ممكن. وهذه القراءة تحاول أن تخضع نفسها للنص، فتبرز ما يبرز، وتخفي ما يخفي لتقدم لنا صورة (طبق الأصل) عن المقروء، أي تعبيراً "مطابقاً" لوجهة النظر الصريحة التي يحملها. وهذا ما نجده غالباً في الكتب المدرسية والمؤلفات الجامعية (الأكاديمية) وهي قراءة ذات بعد واحد، لكونها تحاول أن تتبنى نفس البعد الذي يتحدث منه صاحب النص.‏
2-القراءة التأويلية: وهي لا تتوقف عند حدود التلقي المباشر، بل تريد أن تساهم بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يحملها الخطاب، فهي لا تقبل الوقوف عند حدود (العرض) و(التلخيص) و(التحليل) بل تريد إعادة بناء الخطاب بشكل يرضيها، فهي قراءة ذات بعدين: بعد تحدث منه الكاتب، وبعد يتحدث منه القارئ. وتكون القراءة (ناجحة) عندما تستطيع توظيف البعدين معاً في إنتاج بناء واحد منسجم ومتماسك.‏
3-القراءة التشخيصية: القريبة من روح التفكيك، والتي يقول عنها: "إننا نحاول أن نسهم بوعي وتصميم في إنتاج مقروئنا، ومقروؤنا ليس ما يقوله النص، بل الكيفية التي بها يقول". وإذ يرفض الجابري القراءتين السابقتين، فإنه يقترح هذه القراءة للخطاب العربي الحديث والمعاصر، من أجل تفكيكه، والكشف عن تهافته، وتقديم تناقضاته ونقائضه. والمهم في هذا الخطاب، ليس مضمونه الإيديولوجي، ولا محتواه المعرفي، وإنما علامات العقل الذي ينتجه، وتشخيص هذه العلامات. ومن الواضح أن هذه القراءة تعمد إلى المزاوجة بين المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي. ويحدد لحمداني حميد مستويات القراءة، حسب مستويات المعرفة، فيجعلها أربعة هي:(22)‏
1-المعرفة الحدسية، وتنتج القراءة الحدسية، ووظيفتها التذوق والمتعة.‏
2-المعرفة الإيديولوجية، وتنتج القراءة الأيديولوجية، ووظيفتها المنفعة.‏
3-المعرفة الذهنية، وتنتج القراءة المعرفية، ووظيفتها التحليل.‏
4-المعرفة الابستمولوجية، وتنتج القراءة المنهجية، ووظيفتها التأمل المقارن.‏
لكن ينبغي نبذ الاعتقاد بأن هذه القراءات هي جزر متباعدة لا يمكن أن تلتقي أو تتداخل، إذ هنالك التقاء ممكن بين جميع هذه المستويات، وإن كان التمييز بينها تفرضه هيمنة إحداها.‏
أما سعيد علوش في كتابه (عنف المتخيل الروائي في أعمال إميل حبيبي) 1986، فيشير إلى ثلاثة مستويات للقراءة أيضاً، هي:‏
1- القراءة الأفقية: التي تقود القارئ المتوهم إلى احترام العقد الضمني بينه وبين الكاتب، وهي قراءة لا تتساءل.‏
2-القراءة العمودية: وتبدأ بالمقارنة الأولية، لتنتهي بالتساؤل عن التشابهات والتماثلات أو التعارضات، فالتركيب.‏
3-القراءة الهيرمينوتيكية: التي تعتمد أساساً على ملاحقة خطابات المستنسخات، وجدلية اللعب بالرموز، والمواقف والشخصيات، فهي قراءة ثلاثية الحدود والرغبة، وهي أقرب إلى التأويلية. وقد أصدر كتاباً خاصاً بها بعنوان (هرمنوتيك النثر الأدبي) وقدم تحديدات لهذا المصطلح في كتابه (معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة)، ثم اعتمد هذه القراءة في دراسته لأعمال إميل حبيبي.‏
أما اعتدال عثمان في كتابها (إضاءة النص)(23) فقد جعلت القراء على نوعين:‏
1- قراءة استنساخية: حرص على أن يكون التلقي بأكبر قدر ممكن من الأمانة، وتكتفي بالوقوف عند حدود التلقي المباشر، والخضوع للنص. ومع أن هذه القراءة لا تخلو من التأويل، فإنها تخلو من الوعي بما تقوم به من تأويل.‏
2- قراءة استنطاقية: تنحاز الناقدة إليها، لأنها تسهم بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يحملها الخطاب، وتتطلب شحذاً لإرادة القارئ ولقدرته على البناء. ومن خلال عملية تحليل الأفكار وتركيبها يمارس القارئ أفعال الاختيار، فتتقدم أفكار بعينها، وتتراجع أفكار غيرها، حتى نصل في نهاية الأمر إلى بناء جديد لأفكار العمل الفني، ولطريقة التعبير عن هذه الأفكار. ويتفاوت البناء في تماسكه وقدرته على الكشف، كما تتفاوت كيفية البناء في كل قراءة جديدة. ويقتضي حفز إرادة القارئ، وإطلاق أفعال الاختيار والممارسة الواعية، رفض آليات طرق التفسير المألوفة، والوقوف عند تخوم التلقي المباشر، ومشاركة القارئ في إعادة تشكيل العمل الفني، وهي مشاركة لا تتوقف على إرادة القارئ وحدها وإنما تتطلبها جماليات الفن ذاته، عندما تقوم على رؤيا مركبة للوجود. وعلى ضوء هذه القراءة حللت قصيدة (الأرض) لمحمود درويش.‏
وأما عبد الله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير) 1985 فيرى أن الأدب هو (نص) و(قارئ)، وأن النص لا يتحقق وجوده إلا بالقارئ الذي يعطيه أهميته. ومن هنا تأتي أهمية القراءة، وتبرز خطورتها، لأنها تقر مصير النص الأدبي.‏
ويعرض الغذامي بعض أنواع القراءة لدى تودوروف، وياكوبسون، وريفاتير، قبل أن يعرض مشروعه القرائي، فيرى أن تودوروف إذا كان قد صنّف التعامل القرائي في ثلاثة هي: التعامل الإسقاطي، وتعامل الشرح، والتعامل الشاعري، فإنه قد اهتم بالتعامل الشاعري، وذلك بقراءة النص من خلال شفرته، بناءً على معطيات سياقه الفني، في سعي إلى كشف ما هو في باطن النص.‏
وأما ياكوبسون فقد وقع في شيء من الميكانيكية العقيمة في إغراقه بالوصف الأسلوبي الذي يقوم على رصد إحصائي شامل لكل ابنية النص النحوية والبلاغية وكل تركيباته اللغوية، مما جعل بعض دراساته مجرد بيانات إحصائية لما يتضمنه النص من هذه التراكيب، كما في دراسته بالاشتراك مع ليفي شتراوس لإحدى قصائد بودلير.‏
وأما ريفاتير فقد طالب بـ(القارئ المثالي) الذي يعمد إلى (الاستجابة الذاتية) التي تبدأ من القارئ وتنتهي بالنص.‏
وهذه وغيرها من القراءات المتعددة توقع الدارس في حيرة، فأية قراءة يختار؟ وأي طريق يسلك؟ في عصر تعددت فيه (القراءات)، ومُنحت فيه القراءة سلطة على النص.‏
ويرى الغذّامي أن القراءة عمل إبداعي، وأن القارئ تحول إلى منتج للنص، يثريه دوماً باجتلاب دلالات لا تُحصى إليه، عن طريق تفسير إشاراته ورموزه التي هي في حالة غياب حتى يستدعيها القارئ، وأنه لا سبيل إلى إيجاد تفسير واحد للنص، وسيظل النص يقبل تفسيرات مختلفة ومتعددة بعدد مرات قراءاته. وهذا ما يضع الغذامي في طريق مدرسة (النقد التشريحي) كأحدث ما قدمه العصر من إنجاز نقدي، حيث يعي مجالاً تاماً للتركيز على النص، وفي الوقت نفسه يفتح الباب للدور الإبداعي للقارئ. ومن هنا فهو يحفظ للنص قيمته الفنية، ويحول القارئ من مجرد مستهلك للنص إلى منتج له.‏
وقد اتخذ في قراءته (التشريحية) مبدأ (تفسير) الشعر بالشعر) شعاراً نقدياً تصدر عنه قراءاته الشعرية. وهو يتضمن مفهومات (السياق) و(النصوص المتداخلة)، وتفسير النصوص. وهذه تشكل العمود الفقري لنظريته في القراءة. ومن هذا المنطلق دخل على النص الأدبي على أنه (جسد) حي، فأعمل فيه مبضع النقد، لتشريحه، من أجل سبر كوامنه، وكشف ألغازه، في سبيل تأسيس الحقيقة الأدبية لهذا البناء. أي أن التفكيك والنقض ليس من أجل الهدم، وإنما هو من أجل البناء. وبهذا تبدأ العملية المزدوجة: من الكل إلى الجزء لتفكيكه، ثم من الجزء إلى الكل لإعادة تركيبه. وهكذا تبدو (التشريحية) اتجاهاً نقدياً عظيم القيمة، لأنها تعطي النص حياة جديدة، مع كل قراءة تحدث له، أي أن كل قراءة هي عملية تشريح للنص، وكل تشريح هو محاولة اكتشاف وجود جديد للنص.‏
ويعترف الغذامي بأن (تشريحيته) هذه تختلف عن تشريحية ديريدا التي تقوم على محاولة نقض منطق العقل المدروس من خلال نصوصه، وتتفق مع تشريحية رولان بارت الذي يعمد إلى تشريح النص لا لنقضه، ولكن لبنائه، وذلك في كتبه: Z/S، ولذة النص، وخطاب عاشق، حيث جعل القراءة علاقة حب بين القارئ والنص، وجعل القارئ عاشقاً للغة يهيم ولهاً بها.‏
وفي تطبيقه النقدي على أدب (شحاتة) عرض الغذامي مشروعه القرائي في الخطوات التالية:‏
1-قراءة عامة: لكل أعماله، وهي قراءة استكشافية (تذوقية) مصحوبة برصد للملاحظات.‏
2-قراءة نقدية تذوقية: مع محاولة استنباط النماذج الأساسية التي تمثل (صوتيمات) العمل، أو نواه الأساسية.‏
3-قراءة نقدية تعمد إلى فحص (النماذج): بمعارضتها مع العمل، على أنها كليات شمولية تتحكم في تصريف جزئيات العمل الكامل.‏
4-دراسة (النماذج): على أنها وحدات كلية، بناء على مفهومات النقد التشريحي، انطلاقاً من المبادئ الألسنية. وهذه (النماذج) هي (إشارات عائمة) تسعى إلى تأسيس (أثرها) في القارئ الذي هو الصانع لهذا الأثر عن طريق تفسير الإشارة بربط النص بسياقه، من أجل بناء حركة (النصوص المتداخلة).‏
5-وأخيراً تأتي الكتابة: وهي إعادة البناء، وفيها يتحقق النقد التشريحي، إذ يصبح النص هو التفسير، والتفسير هو النص. وقد عمد الغذامي إلى تفكيك النصوص إلى وحدات، وسمى الوحدة (جملة)، وهي تمثل (الصوتيم) حيث لا يمكن كسرها إلى ما هو أصغر منها. وحدها الأعلى أنه يمكن الوقوف عندها كقول أدبي قائم بذاته غير معتمد على سواه، وهي تختلف عن الجملة النحوية.‏
وهكذا تبدو (القراءة) مقاربة تشريحية تهدف إلى سبر أغوار المقروء واستكشاف بواطنه، دون أن تدعي لنفسها الوصول إلى غاية لن تصل إليها، إذ كلما تكررت القراءة، اختلفت النتيجة، وجاءت بالجديد. كما هي حال (دير الجودي) المبني على قمة جبل الجودي الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام. إذ يذكر القزويني(24) أنهم زعموا أن سطحه يُشبر فيكون ثمانية عشر، فكلما شُبر اختلف عدده. وما محاولة شبر سطح الدير إلا ضرب من القراءة. وكل قراءة لا بد من أن تواجه مأزقاً يماثل مأزق تشبير سطح الدير. فالمقروء يزيد وينقص ويتبدل مع تكرار القراءة. وهي مسألة يعرفها السيميائيون القدامى منهم والمحدثون، بدءاً بالغزالي وانتهاءً بأمبرتو إيكو.(25) هكذا تميط (القراءة النسقية) اللثام عن تراكب المظهر الجمالي الدلالي للنص، فتفكك رموزه وإشاراته، وتكشف عن إمكانية تعدد دلالاته، وقابليته للانفتاح، ومن ثم تعدد تأويلاته التي لا تدّعي أية واحدة منها إنها هي وحدها (الحق) وما سواها باطل.‏
تقف القراءة النسقية موقف الرافض للقراءة السياقية، فتسجل عليها عدة مآخذ، منها: إن القراءة السياقية ليست أكثر من تفسير وشرح للأدب: فالمنهج النفسي لا يفهم الأدب إلا في ضوء آفات الأدباء العضوية، وعقدهم النفسية والمنهج الاجتماعي الذي يستمد من الواقع، يهمل الجانب الفني للأدب، والمنطق الداخلي للإبداع، مغلباً عليهما الظروف الاجتماعية المحيطة بالأدب. بخلاف القراءة النسقية التي تُعنى باللغة الأدبية وجمالياتها، فتجعلها (غاية) تجمع بين المتعة والفائدة. وتفتح النص على تعدد الاحتمالات التي تتسع لها اللغة من خلال الحقول الدلالية الخصبة، والرموز والإشارات التي تُعلي من شأن بلاغة الغموض والانزياح، ذلك أن (النص) يظل دوماً أغنى من عشرات التفسيرات التي تحاول الإحاطة بمعانيه ودلالاته التي تأبى التقوقع في تأويل واحد.‏
إن القراءة النسقية اللسانية هي القراءة العلمية، لأنها تطبق المقاييس العلمية على اللغة، ولأنها تستقل بهذا العلم الذي له قوانينه وأنظمته الخاصة به. وهي إذ تبحث في بنية اللغة الأدبية، في تقنياتها الأسلوبية، ودلالاتها السيميائية، فإنها تعد أفضل منهج يدرس الأدب، لأنها لغوية تدرس اللغة التي هي عماد الأدب وصورته الواضحة.‏
وتتعدد القراءات اللسانية: من أسلوبية، إلى بنيوية، وسيميائية... وكلها تصف (النص) الأدبي، وتستنبط بنياته وقوانينه، في تحليل وتركيب يتخطى حدود النص كدال إلى تقاطع النصوص و(تناصها). لكن التحليل اللغوي يختلف من منهج نقدي إلى آخر، فالتحليل الأسلوبي هو غير التحليل البنيوي، وكلاهما يختلف عن التحليل السيميائي، والتفكيكي، وإن كان تحليل اللغة هو القاسم المشترك بين هذه المناهج النقدية جميعاً.‏
وإذا كانت الاتجاهات (البنيوية) قد أعلت من سلطة (النص)، ولم تعر بقية عناصر العمل الأدبي اهتماماً، فإن اتجاهات (ما بعد البنيوية) قد أعلت من سلطة (القارئ)، كما نجد في (نظرية التلقي)، و(التفكيكية)، حيث يعلن الناقد التفكيكي الأمريكي بول دي مان أنه قد انتهى زمن تسلّط (النص) الأدبي، وأن التفكيكية ما هي إلا‏
نشاط قرائي، وثيق الصلة بالنصوص التي يتناولها.(26)‏
هكذا حظيت عملية القراءة في هذا العصر باهتمام لم تحظ به من قبل، في النقد القديم، على يد النقاد الألمان، والبنيويين الفرنسيين. ثم جاء التفكيكيون فأخذوا بمقولة بارت (موت الكاتب) ليبقى القارئ وحده، وجهاً لوجه، أمام النص الأدبي. وقالوا إن كل قراءة هي أساس قراءة تلغيها القراءة التالية، وإن كل تفسير هو تفسير خاطئ يلغيه التفسير اللاحق.‏
هوامش:‏
(1)-رولان بارت- Z/S ص 4-5.‏
(2)-اديث كيرزويل- عصر البنيوية- تر: جابر عصفور- وزارة الإعلام- بغداد 1985 ص 285.‏
(3)- Riffaterre: Models of the literary sentence. P:18.
(4)-Culer: Structuralist Poetics P: 109.
(5)-Pettit: The concept of Structuralism 1977 P: 78.
(6)-ابن طباطبا- عيار الشعر ص 14.‏
(7)-ابن رشيق- العمدة 1/251.‏
(8)-أبو هلال العسكري- الصناعتين، ص 104.‏
(9)-الآمدي- الموازنة ص 11.‏
(10)-حازم القرطاجني- منهاج البلغاء ص 365.‏
(11)-ابن طباطبا- عيار الشعر ص 15، 120.‏
(12)-نفسه ص 16.‏
(13)-أسامة بن منقذ- البديع في نقد الشعر ص 160.‏
(14)-ابن طباطبا- عيار الشعر ص 14.‏
(15)-نفسه ص 16.‏
(16)-القاضي الجرجاني- الوساطة بين المتنبي وخصومه ص 412.‏
(17)-تر: محمد خير البقاعي- مجلة البحرين الثقافية- ع6 عام 1995.‏
(18)-تودوروف- شعرية النثر ص 235.‏
(19)-تودوروف- الأدب الفرنسي اليوم- جامعة كامبردج 1982.‏
(20)-ت.س.إليوت: فائدة الشعر فوائدة النقد- تر: يوسف نور عوض- بيروت 1982
ص 38.
(21)-سارتر: الأدب الملتزم. تر: جورج طرابيشي- بيروت 1961 ص 120.‏
(22)-لحمداني حميد- مستويات التلقي: القصة القصيرة نموذجاً- مجلة دراسات سيميائية أدبية ع6 عام 1992 ص 99.‏
(23)-مجلة (فصول) ع 1 عام 1984.‏
(24)-في آثاره ص 369.‏
(25)-في كتابه: رحلة إلى جمهورية النظرية.‏
(26)-كريستوفر نوريس- التفكيكية- لندن 1982.‏