نص الأدبي والمتلقي

نص الأدبي والمتلقي


النص الأدبي والمتلقي 
 د.عبد النبي اصطيف

مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 309 -310 شباط "رمضان" 1997
ــ تحديدات:‏
ــ أ ــ النص الأدبي:‏
الأدب فن جميل يتخذ من اللغة الطبيعية أداة له، ويتبدى في صورة نصوص تتراوح بين الجملة (المَثل) والمجلدات العديدة (روايات مارسيل بروست البحث عن الزمن الضائع، ونجيب محفوظ الثلاثية، وعبد الرحمن منيف مدن الملح، ونبيل سليمان مدارات الشرق)، وهو بهذا المعنى إنشاء يتفاوت طولاً وقصراً ولكنه يتمتع بحد أدنى من الاستقلال والإكتفاء الذاتي ويشكل نظاماً دليلاً متماسكا ً COHERENT SIGNYIFYING SYSTEMيرتبط على نحو عضوي بالبنى فوق الأدبية السائدة التي تسهم في تحديد دلالات مكوناته الصغرى فضلاً عن دلالته الإجمالية. وعلى الرغم من تأدية اللغة الطبيعية في الإنشاء الأدبي وظائف مختلفة ومتعددة فإن مايمنحه أدبيّته LITERARINESS,ويُدخِله بالتالي في نادي الفنون الجميلة، سيادة الوظيفة الجمالية فيه AESTHETIC FUNCTION لسائر الوظائف الأخرى.(1) والحقيقة أن سر احتفاء القارئ بهذا الإنشاء يكمن أساساً في هذه الوظيفة التي تنطوي عليها التجربة الفنية التي يجسّدها النص الأدبي.‏
ذلك أن النص الأدبي لا يعدو كونه رسالة MESSAGE يبثّها مرسل ADDRESSER إلى مستقبل أو متلق ADDRESSEE ما، مستنداً في ذلك إلى نظام ترميزي CODE مشترك، كلياً أو جزئياً، بينهما، ويقوم هذا المتلقي على أساس منه بفك شيفرة الرسالة واستيعابها، كلياً أو جزئياً تبعاً لدرجة تمكنه من النظام الترميزي ومستوياته المختلفة، ومن ثم الاستجابة لها تبعاً لهذا الاستيعاب(2).‏
ومعنى هذا أن عملية الإنتاج الأدبي تنطوي على عملية توصيل يقف على طرفيها قطبان تصل بينهما قناة CHANNEL تبدو في ظاهرها طريقاً باتجاه واحد ينطلق من قطب المرسل وينتهي بقطب المتلقي،يبدأ بالقطب المبادر الذي هو المرسل أو المخاطب أو المتكِّلم أو المتحدِّث أو الكاتب أو المنتج أو المبدع أو الخالق وينتهي بالقطب السالب المستجيب لهذه المباردة، والذي هو المرسل إليه أو المخاطَب أو السامع أوالمصغي أو القارئ، أو المستهلِك أو المتذوِّق _ تختلف المسميات والمسمى واحد في كل من طرفي عملية التوصيل الأدبي، ولكن إن هو إلا اختلاف المنظور إلى العملية الأدبية الذي يقود إلى اختلاف المصطلح، واختلاف مواضع التوكيد،واختلاف تقدير الأهمية المعزوة إلى هذا الطرف أو ذاك.‏
ولكن الملاحَظ أن ثمة ميلاً غالباً لدى دارسي الأدب ونقاده إلى النظر إلى الأول على أنه طرف يقوم بفعل يتصف بالإيجابية وروح المبادرة وتسامي الوعي ووضوح القصد والرغبة في التأثير في الطرف الآخر، والنظر إلى القطب الثاني على أنه طرف سلبي يتابع في فعله ووعيه وقصده واستجابته الطرف الأول. ذلك أنه مجرد متأثِّر منفعِل قنع من مجد الفعل بردّة الفعل لأنه أقصى ما يسمح له موقعه به.‏
والحقيقة أن التفحص الدقيق لطبيعة القطب الثاني أو الطرف الأخير هذا وهو المتلقي يكشف عن أهمية لا يمكن تجاهلها، وأن الدراسة المتمعنة لجوانب دوره تبين عن دور إيجابي فاعل ومؤثر لايمكن إغفاله. وعلى الرغم مما يبدو مبالغة في زعم بعضهم أن هذا الدور محدِّد يرقى بصاحبه إلى أكثر من دور المشارك الفعال في عملية الإنتاج الأدبي ذاتها فإن من الواضح أن للمتلقي دوراً مهماً في عملية الإنتاج الأدبي وأنه جدير بالبحث المتأني الذي ينبغي أن يقود إلى توضيحه في مختلف أطوار عملية الإنتاج الأدبي:‏
ــ طور ما قبل الانتاج(3) PREــPRODUCTION STAGE
ــ طور الإنتاج(4) PRODUCTION STAGE
ــ طور ما بعد الإنتاج(5) POSTــPRODUCTION STAGE
مثلما يقود بالتالي إلى إعادة التوازن للعملية الأدبية ذاتها. ذلك أن استعادة حقوق المتلقي (6) كاملة في هذه العملية لا يمكن إلا أن يعود بالفهم الأعمق والأغنى والأشمل للنص الأدبي، موضع العناية الأكثر جدوى انتاجاً واستهلاكاً، خلقاً وتذوّقاً، كتابة وقراءةً إرسالاً واستقبالاً بثاً وتلقياً، لأنه يعيد التكامل الذي طالما انتظرته النظرية النقدية بين القطب الفني الذي هو نص المؤلف، والقطب الجمالي الذي هو تحقق هذا النص الذي ينجزه القارئ أو المتلقي على حد تعبير ويلفغانغ إيزر(7) كبير النقاد الألمان الاستقباليين المعاصرين الذي نذر نفسه لدراسة عملية التفاعل بين النص والقارئ.‏
ــ ب ــ المتلقي:‏
المتلقي قطب مهم وأساسي وحيوي وفاعل في عملية التوصيل الأدبي ومن الأهمية بمكان تحديدهويته قبل المضي إلى تلمس جوانب دوره في أطوار عملية الانتاج الأدبي الثلاثة.‏
ثمة بداية"المتلقي بوصفه مفهوماً مطلقاً مجرداً عن الزمان والمكان والشروط الدنيوية المختلفة التي تحيط عادة بعملية التوصيل الأدبي" .وهناك بعد ذلك "المتلقي الفعلي" الذي يتلقى النص الأدبيــالرسالة فعلاً في لحظة زمنية ما، وضمن شروط دنيوية محددة تشكّل السياق الأوسع الذي تتحقق فيه عملية التوصيل الأدبي. ومن الواضح أن هذا المتلقي يمكن أن يكون متلقياً عادياً لا يملك إلا الحدود الدنيا من متطلبات الوقت والخبرة التي تفرضها عملية التلقي مثلما يمكن أن يكون متلقياً رفيع المستوى مسلحاً بأرقى تطورات المعرفة، يتيسر له الوقت والخبرة والتسهيلات المختلفة التي تجعل من تلقيه عملية معقدة متطورة مدروسة ومنظمة ذات جدوى معرفية، ويمكن أن يكون كذلك بينهما يتحدد موقعه تبعاً لما يتاح له من وقت وخبرة وتسهيلات وتأهيل.‏
وإذا ما غادر المرء المتلقي المطلق والمتلقي الفعلي يجد نفسه إزاء متلق ثالث هو "المتلقي الضمني " الذي يضعه المرسل أو المؤلف نصب عينيه عندما ينتج نصه. وهذا المتلقي المفترَض من جانب منتج النص الأدبي هو في حقيقــة الأمر مــتلق غير فعــلي وإن كان يمتَّ بصلة إلى الواقع الذي يعيشه المنتج زماناً ومكاناً وشروط دنيوية، وهو يتشكل في وعي هذا المنتج نتيجة خبرته المتراكمة من تجارب تلقي نصوصه السابقة من المتلقين‏
الفعليين على اختلاف مستويات تأهيلهم وقدراتهم ومهاراتهم وبصرف النظر عن تقويمه لهذه التجارب وموقفه منها.‏