التلقي والتواصل


دكتور حسن مصطفى سحلول

من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001

الفصل الثاني :

القارئُ ووجوهُه المتعدّدة.

1-القارئ وأقنعته.

1-1-مكانة المتلقّي في عمليّة التواصل الأدبيّ.

هل نستطيعُ أن نحيطَ بعمليّة القراءة على عملنا بأن عددَ قرّاء نصٍّ ما يمكن أن يكونَ لا متناهياً؟. وبكلماتٍ أخرى هل يمكن أن نضعَ نظريّةً يكون القارئُ موضوعَها؟
وللإجابة على هذا السؤالِ ينبغي علينا أن نتفحّصَ بعنايةٍ مقامَ المتلقّي في عمليّةِ التواصلِ الأدبيّ. لقد درسنا في فصلٍ سابق ما يختصُّ به الخطابُ المكتوبُ. وقلنا بأن هذا الخطابَ يُنشِئُ بفضل المفرداتِ وعن طريقها فقط كون مرجعيّته وذلك بقدر ما تنقطعُ صِلاتُه عن الوسطِ الذي ظهر فيه إلى الوجود. وعليه فإن المُرسِلَ والمُتلقّي يكونان قائميْنِ في فعلِ الكتابةِ ذاته قبل أن يتجسّدا في شخصيْن ملموسيْن وواقعيّين.
إنّ الطرفين يزدوجان في التواصل الأدبيّ.
فمن جهة المرسِل، لقد صار من المتعارَف عليه أن نميّزَ بين الطرف الذي يخلُق النصَّ ويُظهِرُه إلى الوجود، ونعني بذلك الكاتبَ عينه، وبين الطرفِ الذي يظهرُ إلى الوجود مع النصِّ وينهض بمهمّةِ إعلانه، ونعني بذلك الراوي. فالذي يكتبُ ليس الذي يسرُد. ونحنُ لا نخلطُ البتّةَ بين شخص الكاتب توفيق الحكيم (1898-1987) وشخصيّة موظّفِ القضاء الذي يروي لنا مشاهداته في الريف المصريّ رغم أنّ الرواية تقدّم نفسَها على أنّها مذكّرات نائب في الأرياف!
(1937).
وكذلك يتميّز الكاتب شكيب الجابري(1912-1996) ذو الحياة المعروفة والمدروسة بعنايةٍ والموثّقة في معجم الروائيين العرب للدكتور سمر روحي الفيصل عن راوي قدرٌ يلهو (1938) والذي لا نعرف عن حياته إلاّ شذرات مبعثرة هنا وهناك في أرجاء الكتاب.
فإذا شدّنا الفضولُ لمعرفةِ حياة الكاتب أو لمعرفة شيءٍ ضئيلٍ منها فلابدَّ لنا من تحقيقٍ وبحثٍ قد يكونان طويليْن وشاقيْن وجمعِ وثائقَ قد يكون بعضُها رسميّاً وقراءةِ مذكّراتٍ تركها المؤلّفُ نفسُه أو بعضُ معاصريه، وقد يضطرّنا الأمرُ كذلك إلى سفرٍ مُنهِكٍ وترحالٍ إلى بلادٍ بعيدةٍ لتقصّي آثار الرجلِ ومراحلِ أيّامِه.
ولكنّه يكفينا أن نقرأ الروايةَ لنلمَّ بكلِّ ما يمكن أن يُعرَفَ عن الراوي!.
إنّ الراوي هو إذن خليقةُ الكاتب وصنيعتُه وهو يتفرّدُ عنه بجنسِه وبمشاربه وبطبائعهِ وبمثُلِه الأخلاقية.
فراوي حماري قال لي (1945) على ذكائه وفطنته المدهشة ودعابته ينتمي إلى جنس البهائم، وليس كذلك بطبيعة الحال كاتبُ النصِّ توفيق الحكيم!
وأمّا من جهةِ المُتلقّي فهو في نفس الوقتِ قارئٌ حقيقي من لحمٍ ودمٍ ذو صفاتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ تتنوّعُ حتى لا يكاد ينضبُ تنوّعُها، وهو كذلك شخصيّةٌ وهميةٌ يفترضُ وجودَها وجودُ الراوي نفسِه. فكلُّ نصٍّ يتوجّه بالضرورةِ لقارئٍ أي لمُتلقٍّ.
ومن خلال ما يقوله وبالطريقة التي يقولُها فإنّ النصَّ الأدبيَّ يفترِضُ دائماً نمطاً خاصّاً من القرّاء, فراوي إدوار خرّاط (1926) في رامة والتنّين أو ساردُ جبرا إبراهيم جبرا (1919) في رواية البحثُ عن وليد مسعود (1987) لا يتوجّهان إلى ذات القارئ الذي يقصدُه إحسان عبد القدوس (1919-1990) في أنا حرّة (1954) أو مثيله عند يوسف السباعي (1917-1978) في جفت الدموع (1961)!. ويمكنُنا أن نستنتجَ من خلال هذه النصوص أن القرّاء الذين تتوجّه إليهم ليسوا جميعاً على ذات الدرجةِ من الثقافةِ النظرية ولا تشغلهم ذات الهموم وأن أعمارهم متفاوتةٌ.
كيف نصل إلى هذه النتيجة؟
إننا نستخلِصُ ذلك من خلال المواضيع التي يطرقُها النص الأدبي ومن خلال اللغةِ التي يلجأ إليها لمعالجة تلك المواضيع. ونستطيع كذلك بفضل هذه الإشارات أن نُظْهِرَ ملامحَ القارئ الذي يخاطبه الساردُ. وعليه فإن المَروِيَّ له، شأنه في ذلك شأنُ الراوي، لا وجود له إلاّ في ثنايا الحكاية، وهو ليس إلاّ حصيلة الإيماءات التي تُنشِئه.

1-2-القارئ بصفته فرداً أو صورةً أو عضواً من جماعة.

إن ذهبنا من التمييز الذي رأيناه فيما سبق استطعنا أن نحصي الأشكالَ التي يتخذُها القارئُ أو الأقنعةَ التي يحملُها. فلنا أن نراه كفردٍ فذٍّ قائمٍ بذاته المتفرّدة أو كعضوٍ من جماعةٍ بشريّةٍ معروفةٍ أو كصورةٍ كامنةٍ من النصِّ يُنشئها النصُّ بوجودِه. ولنا أن ننظرَ إليه كجميع ذلك معاً وفي ذات اللحظة.
فلننظر الآن إلى القارئ الفرد المتميّز. إنّه لمن الصعب والحقُّ يقال أن نحيطَ بالقارئ حين نعتبره شخصاً محدّداً وذلك لأن ردودَ أفعاله أمام النصِّ الأدبيّ تخضعُ لأسبابٍ نفسيةٍ وأخرى اجتماعيّةٍ وثالثةٍ ثقافيّةٍ متنوّعةٍ تنوّعاً شديداً. ولكنّ علم التحليل النفسيّ، كما سنرى في خاتمة هذه الدراسةِ، قد يساعدنا على استخلاص بعض الثوابت الكامنة في القارئ.
ويمكننا أن نحيطَ بالقارئ، في ميدان التاريخ الجماعيّ، من خلال القومِ الذين ينتمي إليهم. فالقارئ الفعليُّ لا يرجعنا إلى الجماعةِ التي شهدت ظهورَ الكتاب للمرّة الأولى وحسب، ولكنه يُحيلُنا كذلك إلى كلِّ الجماعات التي مرَّ بها الكتاب منذ ظهر حتى وقع بين يدي قارئنا. وإن كان من المفيد أن نأخذ بالحسبان كلَّ هذه الأقوام القارئة فذلك لأن كلَّ قراءةٍ لنصٍّ ما تحمِلُ في ثناياها القراءات الماضية التي سبقتها.
ونحنُ ما كنّا لنقرأَ مقامات الحريري  (1054-1122) على النحوِ الذي نفعلُه اليومَ لو أنَّ أبا العباس أحمد بن عبد المؤمن الشُريْشي قرأها قبلنا على نحوٍ غير الذي قام به. وكذلك فإن قراءتَنا اليوم لنجيب محفوظ (1911) لابدّ أن تأخذَ بعين الاعتبار ما قاله عنه الناقد جورج طرابيشيّ في الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزيّة (1973).
ولكن القارئ وقبل أن يكون ذا حقيقةٍ تاريخيّة ملموسةٍ فرديّةٍ أو جماعيّةٍ فإنه حالةٌ أو هيئةٌ أو صورةٌ تكمن في خلايا النصِّ. أي أنّه المرويُّ له المستتر الذي يتوجه إلي الحديث.
وصورةُ القارئ هذه التي يُنشئها النص لا يحدّدها نوعُ النصّ الأدبي وحسبُ (تفترضُ الرواية البوليسيّةُ قارئاً مُحققاً بينما تفترضُ القصةُ الفلسفيّة قارئاً ناقداً) ولكن يُحددها كذلك شكلُ التعبير الخاص بكل نوع أدبيٍّ. فكتاب طه حسين (1889-1973) في الشعر الجاهليّ (1926) لا يتوجّه بسبب لغته وأسلوبه على الأقل إلى ذات الجمهور من القرّاء الذي يهدِفُ إليه إحسان عبد القدوس في رواية لا أنام! (1956).

1-3-النصُّ وخارجه.

إن المحاولات السابقة للإحاطة نظريّاً بالقارئ تُظهِرُ للعيان أنّ حدوداً واضحةً تفصِلُ بين العالم الذي يُنشِئه النصّ وبين العالم الذي يقوم بنفسه خارج النصٍِّ. فهناك القارئُ الوهميُّ الذي يفترض النصُّ وجودَه ويحمِله في ثناياه وهناك القارئ الفعليّ الحيُّ الذي يُمسكُ بالكتاب بين يديْه.
ومن السؤالُ التالي. كيف نعرّفُ العلاقةَ القائمةَ بين القارئِ المُجرّدِ الذي يوجد بوجودِ النصِّ الأدبيِّ والقارئ الحقيقيّ الذي يأكل ويشرب؟.
والحق أن الجواب بسيطٌ. يجب أن ننظُرَ إلى القارئ الأول على أنه دورٌ يُقتَرَحُ على القارئ الثاني أن يقوم به. وأن باستطاعة هذا الأخير أن يرفضَ هذا الدور المقترحَ ويكفيه لذلك أن يُغلقَ دفتي الكتاب. وهذا ما يحدثُ عادةً حين تكون شقّةُ الخلافِ واسعةً بين الآراء التي يقترِحُ النصُّ على القارئ الفعليّ أن يتبنّاها مؤقّتاً خلال القراءة وبين ما يؤمنُ به القارئ فعلاً.
وعلى سبيل المثال فإنّ أحداً لا يقسِرُ قارئاً على أن يتبنّى نموذجَ القارئ الذي تتوجّه إليه سلسلةُ كرم ملحم كرم (1903-1959) ونعني قارئاً مشغولاً بالسبلِ المُلتويةِ التي تطرقها العاطفةُ المشبوبةُ التي تحسُّ بها فتاةٌ من أصلٍ وضيعٍ نحو شابٍ حسن الصورة فاء عليه القدرُ بالنعم وذلك قبل أن يلتقيَ الحبيبان في خاتمة الروايةِ لقاءً يسعدهما بلا شكٍّ ولا ريبٍ.
وكذلك يمكننا أن نطرحَ بعيداً عنّا دورَ قارئٍ تغلبُ نَزعتُه لعقيدةٍ معيّنةٍ وهو الدورُ الذي كانت تقترحهُ مثلاً روايات الدعاية الشيوعيّة والتي كانت تظهرُ عن دار التقدّم في موسكو بلغاتٍ عديدةٍ منها العربيّة.
ويغلُبُ أن يثيرَ ردّةَ الفعلِ هذه عند القارئ الحقيقيِّ ما يمكن أن نسمّيه بالحكايات "الخصامية". ونعني بذلك الروايةَ ذات البنية الثنائيّة التي توزّعُ أبطالها بين شخصيّاتٍ خيّرةٍ إطلاقاً وأخرى شرّيرةٍ إطلاقاً كذلك. وهذا النوع من الرواية لا يسعى إلى سوقِ القارئ سوقاً هيّناً لطيفاً إلى حقيقته المسبقةِ وإنما هو ينظرُ إلى القارئ على أنّه مؤمنٌ بتلك الحقيقةِ مسلّمٌ بصدقها قبل أن يشرعَ في القراءة أو هو ينظر إليه على أنه رجلٌ تميل به أهواؤه نحو أولئك الذين يحملون لواء تلك الحقيقةِ في الرواية أو يناضلون في سبيلها.
ونستطيع أن نطلِقَ على هذا النهج في الرواية اسمَ الإقناع بالانتقاء. فهو ينتقي، ومنذ مطلع الأمر، قارئه من معسكر بطلِ الرواية. فرواية الدعاية الشيوعيّة مثلاً تتوجّه إلى قارئ شيوعيّ أو يتعاطف مع الأفكار الشيوعية. وكذلك روايات الدعاية الإسلاميّة عند نجيب الكيلاني مثلاً فإنها تتوجّه إلى قارئ مسلمٍ أو يتعاطف مع الدعاية الإسلامية. ويجد القارئ نفسه بالتالي، وبحكم بناء الرواية نفسه في معسكر الشخصيات الإيجابيّة ذات الأعمال الحميدة.
فحين يعتبر يحيى حقّي (1905-1992) في رواية قنديل أم هاشم (1944) كأمرٍ مسلّمٍ به أم البطلة الإنجليزيّة ماري تجسّد في ذاتها كلّ سيّئات الغرب ليس لسبب إلاّ لأنها أوروبيّةً، أو حين ينظر زكريّا تامر (1926) في دمشق الحرائق (1973) أو في النمور في اليوم العاشر (1978) كأمر بدهيّ أن مهنةَ الشرطيّ أو رجلِ لأمن أو نشاط المسؤول كافيةً بذاتها لمسخِ الشخصيّة القصصيّة أو لأن ينظر إليها القارئُ على أنها سخيفةٌ أو مُهينةٌ أو آثمة، فإنَّ من حق القارئ أن يرفضَ الدور الذي يقترحه عليه يحيى حقّي أو زكريّا تامر.
ثمة نصوصٌ يصعبُ الدخولُ إليها حقاً ويندرُ أن نقرأها من "الجلدةِ حتى الجلدة".

2-في البدء كان المَرويُّ له.

2-1-أهو نظيرُ الراوي؟.

لقد اقترحَ تعبيرُ المرويّ له أو المسرود له للإحاطة بفكرة القارئ الكامن في ثنايا النص. لقد عرّفه الناقد الفرنسيُّ جيرار جينيت  Gerard Genette على النحو التالي فقال: "إنّ المَرويَّ له، مَثله في ذلك مَثل الراوي، هو واحدٌ من العناصرِ التي تكونُ الموقفَ القصصي. وهو يشغلُ بالضرورة ذات الموضع السردي. أي أنّه لا يختلطُ مع القارئ حتى حين يكون مُضمراً كما أنّ الراوي لا يختلطُ مع الكاتب.".
إنّ من الصعبِ علينا أن نقبلَ بهذا التعريف كما صاغه الفرنسيُّ وذلك بسبب كلمة مُضمَر. فإن وافقناه على أنّه من الضروريِّ أن لا نخلطَ بين المَرْويَّ له، بصفتهِ واحداً من أطرافِ النصِّ وبين القارئِ الحقيقيِّ فإننا لا نرى بوضوح ما يُميّزُ القارئَ المَرْويّ له عن القارئ المُضمَر الذي يفترضه النصُّ.
ويبدو أن جينيت  يُميّزُ بين نمطيْنِ اثنينِ من المسرود له تماماً كما يفعلُ بخصوص الراوي. فهو يأخذ تارةً بعيْنِ الاعتبار عمليّة التواصلِ الخارجية (أيّ نشاط القراءة ذاته وفيه تكون الحكايةُ المسرودةُ هدفَ القراءة وموضوعها) وتارةً أخرى يدرسُ عمليّة تواصل "داخليٍّ" تتجسّدُ في الحكاية المسرودة فهي إذن جزءٌ منها، كما يحدث على سبيل المثال حين تتبادل الرسائلَ شخصيّتان أو أكثر من شخصيّات الرواية.
وعليه فإننا نعتقد أنه من الملائم أن نُميّزَ بين مَرويٍّ له داخلي (أي داخل الحكاية) وبين مرويٍّ له خارجيٍّ أو غريب (أي غريب عن الحكاية ويقوم خارجها). ففي رواية شكيب الجابري قدر يلهو تكتب إيلزا بطلةَ الرواية رسالة لعلاء شخصية الرواية الأساسية، وكذلك في رواية سهيل إدريس (1922) الحيّ اللاتينيّ (1953) تكتب الفتاةُ الفرنسية جانين عدداً من الرسائل لسامي بطل الرواية خلال زيارته لبيروت ويكتب لها بدوره. ولكن المرويّ له الداخليّ (علاء أو سامي أو جانين) هو دائماً واحدٌ من شخصيات الرواية ولا يُغيّرُ من ذلك شيئاً أن يكون شخصيّةً قارئةً!
وليس على شيءٍ من ذلك المسرود له الخارجيّ. فهذا ليس شخصيّةً من شخصيّات الرواية ولا يتدخّلُ في أحداثها. إنّه صورةٌ وهميّةٌ مُجردةٌ هي صورةُ القارئ الذي يتوجّهُ إليه كلُّ نصٍّ بالضرورة ويفترضُ وجوده. وعليه فإننا نستطيعُ أن نقولَ بأنّ المَرويّ له الخارجيّ يتطابق مع ما سبق لنا أن أسميناه القارئ الضمني أو المضمر، بل إنه القارئُ الضمنيُ ذاته.
وإذن فالراوي والمَروي له الخارجيّان عن النصّ والغريبان عن الحكاية هما تعبيران "نصيّان" يُكمِلُ أحدهما الآخرَ ويضمنُ وجودُ الأوّلِ وجودَ الثاني. إنهما هيئتانِ مُجرّدتانِ تظهران من بنية الحكاية ذاتها. وعليه فإن من واجبنا أن نفرّقَ في رواية الطيب صالح (1929) موسم الهجرة إلى الشمال (1965) من جهةٍ بين مصطفى سعيد الذي يكتب للراوي ومدام روبنسن التي تكتبُ إليه كذلك بخصوص مصطفى فهم جميعاً رواةٌ داخليّون ومَروي لهم داخليّون، أي أنهم جميعاً شخصياتٌ روائيةٌ تعيش في عالم الحكاية. ومن طرف آخر بين تلك الجهة المُجرّدة التي تُنشئُ تلك الشخصيات جميعاً حين تبني النصَّ كما تبنيه (أي الراوي الخارجيّ) وهي تتوجّه إلى قارئٍ مضمَرٍ تفترضُ أنّ هذه الحكايةَ ستثيرُ اهتمامه وربما ستبعث فيه شيئاً من المتعة (ونعني المَرويّ أو المسرودَ له الخارجيّ). ولكن من هو هذا القارئ الضمنيّ؟ ما هي سماتُ المرويّ له الجوهريّةُ والتي تنطبقُ على كلّ قارئٍ مستترٍ في كلّ نصٍّ قصصيٍّ على الإطلاق؟
إذا طرحنا بعيداً الصفات الخاصّة التي تنسبُها بعضُ النصوص أحياناً لقارئها (كأن يخاطبُ النصُّ تحديداً شخصاً معيناً) فإنّ المرويّ له الذي يولد مع النص نفسه وبمجرد خروج هذا الأخير إلى حيّز الوجود يتصفُ بصفاتٍ بعضُها إيجابيٌ وبعضُها الآخرُ سلبيٌّ.
وأمّا صفاتُه الإيجابية فهو ذو عددٍ معينٍ من الكفاءات. وهو ليسَ يُتقنُ لسانَ الراوي ولغَتَه وحسب (فكلُّ حكايةٍ تفترضُ أن قارئها يفهم الأداةَ اللغويّةَ المستخدمةَ) ولكنّه يُظهِرُ كذلك بعضَ المهاراتِ العقلية. فهو مثلاً ذو ذاكرةٍ لا تهن أبداً تجعله قادراً في الصفحاتِ الأخيرة من روايةٍ مؤلّفةٍ من مئاتِ الصفحات على تذكّرِ ما جرى في صفحاتها الأولى. وهو يدركُ كذلك قواعدَ السردِ وخليقٌ بقبولِ مسلّماتها والرضى بنتائجها.
وأمّا ما يميّزه سلباً فإنّه لا يتقنُ من القراءات إلاّ القراءة "الخطية" الأفقية، وليست له أيّة هوية نفسيّةٍ أو اجتماعية، وهو عارٍ من كلّ تجربةٍ أو حسٍّ سليمٍ.
وتُنشِئ كلُّ حكايةٍ مسرودها الخاصّ بها أو مَرويّها بأن تُعدّلَ من هذه الصفةِ أو تلك من مجموع الصفات الأصليّة المشتركة تعديلاً لطيفاً أو شديداً.

2-2-وجوهُ المَرويّ لَه الثلاثة.

إنّ مضمونَ مفهومِ المَرويِّ له يتغيّرُ إذن إن تمَّ الحديثُ عن مستوى الحكايةِ (أي عن النصِّ كنصٍّ) أو جرى النقاشُ حول الأحداث المرويّةِ. ولقد اقترحَ الباحثونَ أنماطاً عديدةً للإحاطة بهذه المتغيّرات. وبإمكاننا أن نميّزَ بينَ أنواعٍ ثلاثةٍ من المَرويٍّ له.
فهناكَ أولاً المرويّ له أو المسرودُ له والذي هو في نفس الوقت شخصيةٌ روائيّةٌ. وفي هذا النمطِ يشتركُ المَرويُّ له في أحداثِ الحكاية المسرودة. وهذا النموذج يطابق ما رأيناه عندما نظرنا فيما أسماه جينيت  بالمَرويّ له الداخليّ.
ففي مجموعة عبد السلام العُجيليّ (1918) الخيلُ والنساء (1965) نجد قصّةً بعنوان ثلاث رسائل أوربيّة. وفي الرسالةِ الأولى تكتبُ الراويةُ أدنا إلى مروان (المَرويّ له) فتحدّثه عن ذكرياتها وعن حياتها الزوجيّة وعن حادثةٍ أليمةٍ جرت لها خلال زيارتها لباريس أبّان حرب التحرير الجزائريّة.
(عاملٌ جزائريُّ يتحرّشُ بها ثم يبصقُ في وجهها). وتتغيّرُ الأدوارُ في الرسالةِ التاليةِ فيُصبحُ مروان هو الراوي والسيّدة الألمانيّةُ هي المَرويّ له. وفي الرسالة التي يكتُبُها مروان يفضحُ ما رآه تعبيراً عن عُنصريّةٍ مفاجئةٍ في رسالة أدنا ثم يصفُ مظاهرةَ شَهِدَها في أحد شوارع باريس يوم 17 تشرين الأوّل عام 1961 ويذكر كيف قمع البوليس الفرنسيُّ مظاهرةَ الجزائريّين بشدّةٍ بالغةٍ.
وتتغيّرُ الأدوارُ تارة أخرى حين تكتبُ أدنا (الراوي الآن) إلى مروان (المَرويّ له حاليّاً) فتعتذرُ عمّا كتبته وتتمنّى له إقامةً سعيدةً في أوروبّا.
إنّ هذا ما تتميّزُ به على وجه الدقّةِ رواية الرسائل. إنّها تبني عقدتَها وتدفع قُدُماً بأحداثها عن طريقِ رسائل تتبادلها الشخصيّاتُ الروائيّةُ فتُغيّرُ بذلك من موقِعها. فهي تَروي تارةً، ويُروَى لها تارةً أخرى.
وأمّا النمطُ الثاني فهو نمطُ المَرويّ لَه المُنادى. ونعني بذلك القارئَ النكِرةَ الذي لا هويةَ حقيقيّةً له، والذي يُناجيه الساردُ خلال مجرى الأحداث ويلفتُ اهتمامَه إلى هذه النقطةِ أو تلك. وهذا المَرويّ لَه المُخاطَبُ ليس شخصيّةً روائيّةً فهو لا يتدخّلُ أبداً في أحداثها ولا يُؤثّر في تطورها. ونحن نعرف مثلاً أنه كان من عادة جرجي زيدان (1861-1914) أن يلجأ في كثيرٍ من الأحيان إلى هذا النموذج. وهو يستخدمه ليُعلّقَ على هذه الصفةِ أو تلك من صفات بعضِ الشخصيّات الروائيّة أو لإيضاحِ نقطةٍ من أحداث التاريخ."وأنت تعرِفُ أنّ العباسييّن ينتسبون إلى..) أو "ولا ينسى قارئنا أنّ السلطان عبد الحميد قد تسنّمَ العرشَ في عام"
وفي أحيانٍ كثيرةٍ يستخدمُ جرجي زيدان المَرويَّ له المُخاطَبَ ليتحلّلَ من دراسةِ الشخصيّة الروائيةِ دارسةً عميقةً. "وأنتَ تعرفُ أيها القارئُ أنّ النساءَ من عاداتهن..". ونجد استخداماً آخر لهذا النوع على صيغةِ الجمع في رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال ومنذ سطورِها الأولى حين يبدأ الراوي بقوله: عُدت إلى أهلي، يا سادتي، بعد غيْبةٍ طويلةٍ..". ولكنَّ هؤلاء أيضاً مَثَلُهم مَثَلُ المَرويِّ لَه الفردُ، لا يفعلون في أحداث الروايةِ لأنهم ليسوا من سارديها ولا من شخصيّاتها وليسوا كذلك من قرّائها المُضمرين.
إنّ آخر أنماطِ المَرويِّ له. هو ذلك المُنزوي جانباً أو المستتِر. وهو ليس موصوفاً في النصِّ ولا يحمِلُ اسماً ولا هويّةً، ولكنّه موجودٌ ضمناً من خلال الثقافة والقيم التي يفترضُ الراوي أنها موجودةٌ عند من يتوجّه إليه النصُّ.
ونسوقُ مثالاً على هذا المقطعَ القصيرَ التالي الذي نأخذه من أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  في كتابه البخلاء.
"وزَعمتُ أنّ كسْبَ الحلالِ مُضمّنٌ بالإنفاقِ في الحلال، وأنّ الخبيثَ ينزعُ إلى الخبيثِ وأنّ الطيّبَ يدعو إلى الطيّبِ، وأنّ الإنفاقَ في الهوى حِجابٌ دون الحقوقِ، وأنّ الإنفاقَ في الحقوقِ حجازٌ دون الهوى، فعِبتُم عليَّ هذا القولَ، وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قطّ إلاّ وإلى جانبهِ حقٌّ مُضيَّعٌ. وقد قال الحسنُ: إذا أردتُم أن تعرِفوا من أين أصابَ مالَه. فانظروا في أيّ شيءٍ يُنفقُه.(1)
هذه بعضٌ من الحججِ التي يسوقُها سهل بن هارون (بدء القرن التاسع) في معرض ردّه على بني زياد بعد أن ذمّوا مذهبَه في البُخل. ولن يفهمَ قارئ اليومَ برهانَ ابن هارون إن جهِلَ أنَّ معاويةَ المشار إليه هو معاوية بن أبي سفيان (توفي 680) مؤسّس الدولة الأمويّة وأنَّ الحسن هذا هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصريّ (642-728). وإن جهِل كذلك أن أوّلهما كان يرمز في الثقافة العربيّة السائدة أيّام الجاحظ  إلى العظمة والثراء مع حُسنِ السياسة وأنَّ ثانيهما كان يجمع بين الفقه والزهد وأنَّ الاثنين معاً قد عُرِفا بالنظر الثاقبِ وقوّةِ العبارة. وإذن فإنَّ المَروي له المنزوي في كتاب الجاحظ  كان لابدَّ له من أن يلمَّ بحدٍّ أدنى من الثقافة العربيّة السائدة في القرن التاسع الميلاديّ وهكذا يتضح لنا أنّ المروي له أو المنزوي هو عينُ المرويِّ له الخارجي الذي وصفه الناقد الفرنسيّ جينيت ، وأنّه النمطُ الوحيد من بين أنماطِ المرويّ لـه الثلاثة الذي نستطيعُ بفضلهِ أن نُحيط نظريّاً بعمليةِ القراءة.
فالمَرويُّ له الشخصيةُ ينتمي فعلاً وحقاً إلى الحكاية، وليس المروي لـه المُخاطَب إلاّ مخلوقاً روائياً يستطيعُ القارئُ الحقيقي كلَّ الاستطاعةِ ألاّ يتماهى معه. فحين نقرأُ جرجي زيدان مثلاً نستطيعُ تماماً أن نطرحَ بعيداً عنّا الأسئلة التي يتوهمُ الساردُ أنّها أسئلتُنا حين يقول:
"ولا شكَّ بأنّ القارئ يُريدُ أنْ يعرِفَ ولا شكَّ بأنَّ القارئ لا يجهلُ.."
والحقُّ يُقالُ فإنّ المرويّ لـه الخارجي بصفته دوراً يقترحهُ النصُّ على القارئ الحقيقيِّ هو أنموذجُ القرّاء المُفتَرَضينَ أو الوهميينَ أو المُجرّدينَ الذي تُحاولُ شتى النظرياتِ الأدبية أن ترسُمَ ملامحه وأن تُبرِزَ صفاته.

3-ذريّةٌ عديدةٌ

3-1-من القارئ الضِمني إلى القارئ النموذجي.

إنَّ فكرةَ القارئ المُستَتِرِ في ثنايا النصِّ والذي يقوّي من دور القارئ الحقيقيّ قد أنجبت بدورها سلالة عريضة تثير الدهشة. إنّ هذه الفكرة تشغلُ، والحقُّ يقالُ، واسطة العِقدِ في كبرى النماذجِ التحليليّة. وسوف نذكر، فيما يأتي، أهم المحاولات التنظيريّة مرتّبةً حسب تاريخ ظهورها. فهناك أنموذج القارئ "الضمني" الذي أبرزَ ملامحه إيزير W.Iser. وهناك أنموذج القارئ"المجرد" كما طرحه لينتفيلت J. Lintvelt وهناك أخيراً أنموذج القارئ "المثاليّ" الذي اقترحه منذ فترة قريبةٍ الناقد الإيطاليّ أمبيرتو إيكو Umberto Eco.
ويعتمد أنموذج إيزير  على التوجيهات التي يمكن أن تُستَخلَص من النصِّ والتي تصلح بصفتها هذه لكلِّ القراء. أي أنّه يتضمّنُ كلّ الإرشادات الكامنة في نصِّ الحكاية والتي يتعذّر تلقي النص وفهمه بدونها.
ما المقصود بذلك؟.
المقصود بذلك أن معنى النصِّ ينبني بنفس الطريقة بالنسبة لجميع القرّاء. ولكن الاختلاف في فهم هذا المعنى من قارئ إلى آخر يعود إلى اختلاف العلاقة التي يُنشئها هذا القارئُ مع النصِّ عن تلك التي يُنشِئها القارئُ الآخر مع نفس النصِّ. فكلُّ قارئٍ ينفعل انفعالاً خاصّاً به مع أنّه يسلكُ عينَ سُبلِ القراءة التي يفرضُها النصُّ على جميع القرّاء.
وعلى سبيل المثال فإنّ كلّ قرّاء رواية سهيل إدريس الحي اللاتينيّ يطلعون على كلّ الرسائلِ التي تبادلها سامي وجانين والتي تذكرُها الرواية بنصّها. وهم يطلعون كذلك على مذكّرات الفتاة الفرنسية التي يقرؤها سامي والقارئ معه خِلسةً. وعليه فإنّ القرّاء يُطلّون على الأحداث الروائيّة من خلال وجهتيْ نظر الشخصيتين الروائيتين ويتماهون معهما.
ولكن ردود أفعالِ هؤلاء القرّاء أمام هذا التماهي الآلي الذي تُثيره المعرفةُ المشتركةُ تختلفُ اختلافاً قد يكون كبيراً. فمنهم من يرى في كلّ ذلك إثراءً في معرفةِ الشخصيّات وخبايا نفوسها ويوافق بالنتيجةِ على سلوكها أو يقبل بعض الشيء. كما يفعلُ جورج أزوط في سهيل إدريس في قصصه ومواقفه الأدبية (1989). ولكن بعضهم قد يرى في ذلك مبرِّراً لإدانة سامي أخلاقيّاً، وقد ينظرُ إلى سلوكه على أنّه محاولةً تثير الازدراء تريد أن تصوّرَ نذالةً شخصيّةً على أنها تجربةٌ حضاريّةٌ عظمى! كما يفعل جورج طرابيشي في كتابه شرقٌ و غربٌ، رجولةٌ وأنوثةٌ. (1977).
ولكن المُهم هو أن هذيْن القارئيْن كليهما قد انطلقا من نفس التجربة في القراءة، أي تجربة التماهي الآليّ الذي تفرضه بنيةُ النصِّ مع سامي ومع جانين.
ويمكن أن نضربَ مثلاً مختلفاً نأخذه من رواية شكيب الجابري قدرٌ يلهو. فقارئ الرواية الضمني يُرغم القارئ الحقيقيَّ على أن ينتظرَ حتى خاتمة الكتاب قبل أن يكشِفَ له عن حقيقةِ العاهرة المريضة بالسلِّ.
إنّ القارئ الذي يطلق عليه لينفيلت  في نظامه التأويليّ اسم القارئ "المُجرّد" يعادل القارئ الضمني الذي رأيناه في الفقرة السابقة. ويرى الناقدُ أن القارئَ يتصرّف من جِهةٍ كأنّه صورة المَرويّ له والذي يفترضُه النصُّ الأدبيُّ ومن جهةٍ أخرى كأنّه صورة المتلقّي النموذجيّ القادر على استخلاص معنى النصّ الشامل بفضل قراءته النشيطة الإيجابية.
ويتحدّث لينفيلت  كما يتحدّثُ جينيت  عن المَرويِّ لـه. ولكنه يخصُّ بالتسمية القارئ الوهميَّ الذي يتوجّه إليه الراوي وهو الذي ناقشناه فيما سبق باسم المَروي له المخاطَب. ولكي يشرحَ ما يُريدُ فإنه يستشهِد بالمقطع التالي وقد أخذه من كتاب الرواية الهزليّة للفرنسيّ بول سكارون P. Scarron  (1610-1660). وفي هذا الكتاب يستخدِمُ الراوي ضميرَ المُتكلّم فيقول "إنّ مكانتي العاليةَ وسموَّ شأني يدفعاني إلى أن أحذِّرَ القارئَ الذي يريدُ أن يقرأ كتابي هذا فأقول له: "إن أغضبتْكَ الدعاباتُ التي صادفتَها حتى الآن في الكتابِ الذي تُمسِكُ به بين يديْكَ فأنصحك بأن ترمي به بعيداً عنك. فإنّك لن تجد به شيئاً آخر حتى ولو صار بحجم الجبال ضخامةً".
ويرى لينفيلت أنَّ هذا المقطع يُرغمنا على أن نُميّزَ بين جهاتٍ ثلاث. هي المَروي لَه والقارئ المُجَرّدُ والقارئ الماديّ المحسوس. وعلينا كذلك حسبَ ليفيلنت  أنّ نميّز ما يسمّيه بالقارئ المُتطَوّع الذي يتوجّه إليه الحديثُ بصفته جهةً وهميّةً عن القارئ المُجرّد الذي يُفترَضُ به بالضبط أنّه يستْملِحُ هذا الصنف من الدعابة والهزل. ويرى كذلك أنّ علينا أن نُميّزه عن القارئ المحسوس الذي يقرأ حقّاً.
وبطبيعة الحال فإن من المُمكن أن يتبنّى القارئُ المحسوسُ موقفَ القارئ المُجَرّد الفكري فيرضى بالدعابة. ومن المُمكن أيضاً أن يُشاطرَ القارئُ المحسوسُ موقفَ القارئ الوهميّ المستاء من تلك الدعابة فيطرح عنه الكتابَ. ومهما يكن أمره فهذه الجهات الثلاث تبقى مُتفرّدةً وذات طبيعةٍ مختلفةٍ.
وأمّا نحن فإننا نرى بكلّ بساطةٍ أنّ المَرويّ له المذكور، أي ذلك القارئ المتطوّعُ المغرور بعض الشيء وسريع الغضب هو إيماءةٌ ساخرةٌ يُوجهها الراوي إلى المَرويِّ له الكامن في ثنايا النصِّ. ونقصد ذلك القارئ الفطن الذي يظهر مع ظهور النصِّ والذي يعرفُ حقَّ المعرفةِ أن تلميح السارد لا يعنيه ولا يقصده.
وأمّا الإيطالي أمبيرتو إيكو فهو يُعرّف القارئَ النموذجيَّ بأنه مجموعُ شروط النجاح أو مجموع عناصر التوفيق التي تنشأُ نصيّاً والتي لابد أن تحقّقَ كي ينتقلَ النصُّ ونعني هيئةَ المُتلقّي النشيطِ الفعّال والذي تفترضُ وجوده عمليّةُ فكّ رموز الحكاية على أحسن ما يكون. وبمعنى آخر، فإنَّ القارئَ النموذجيَّ هو إذن القارئُ الذي يستجيبُ استجابةً حسنةً (أي استجابةً تطابقُ رغباتِ الكاتب) على كلّ ما يتطلّبُ النصُّ سيّان كان ذلك طلباً صريحاً خالصاً أو طلباً مضمراً مُبطّناً.
وقد تفرضُ بعضُ النصوص الأدبيّة على قارئها أن يقترحَ على سبيل الجواب على مسألة فهم الأحداث فرضيّةً خاطئةً. ويكون عندها خطأُ التأويل الذي برمجه النصُّ واحداً من شروطِ نجاح القراءة التي سبق أن ألمعنا إليها.
وتحضُرُنا كمثالٍ على نصِّ "يغشُّ" قارئه ويقوده إلى سبلِ تأويلٍ وهميّةٍ قصةٌ لإبراهيم عبد القادر المازنيّ (1890-1949) بعنوان عودةُ الحاج من مجموعته صندوق الدنيا.
في هذه الأقصوصة يحكي لنا راوٍ كهلٌ بعض ذكرياته كطفلٍ. فيحدّثنا عن زيارة يوميّةٍ كريهةٍ على قلبه كانت أمّه تُرغِمه عليها كلَّ يومٍ مساءً. فهذه المرأةُ طيّبةُ القلبِ كانت تُرسِلُ، حين يجنُّ الليلُ، ابنها يحملُ شيئاً من الطعام إلى امرأةٍ عجوزٍ تثير في قلبه رعباً كبيراً. وكانت الأم تطلبُ من ابنها كتمان الأمر عن بقيّةِ أفراد العائلة.
وذات يومٍ يشهدُ في بيت العجوز ما يُشبه العرسَ ويبصر نساءً كثيراتٍ يملأنَ البيتَ لَغَطاً وصَخَباً، ضحكاً وغِناءً، بينما تزيّنُ أخرياتٌ المرأةَ العجوزَ كأنها صبيّةٌ في مقتبل العمر تهمُّ باستقبال زوجها لأول دخوله بها. ويفهم الصبيُّ ذاهلاً أنّ زوجَ المرأةِ سيعود بعد قليلٍ إلى منزله بعد رحلةٍ طويلةٍ وغيابٍ شاقٍ في زيارةٍ لبيتِ الله الحرام مؤدّياً فريضةَ الحجِّ. وينتظِرَ الصبيُّ مع النسوةِ المُنتظِرات يملؤها التلهّفُ والترقّبُ. وتمضي الساعاتُ بطيئةً ومُرهِقةً. وتفقد العجوزُ قواها فتقعُ أرضاً بلا حراكٍ غائبةً عن الوعي. وتنصرِفُ النسوةُ إلى بيوتهنَّ وقد ترَكْنَ العجوز على حالها، ودون أن ينتظرن عودةَ الآيب. وحين يسألهن الصبيُّ تفسيراً لسلوكهنّ الشائن تجيبه إحداهُنَّ بأنَّ الرجلَ قد مات منذ عشرِ سنينَ خلال زيارته لمكّة ففقدت زوجتُه عقلها وأصابها من الجنون عارضٌ. وفي كلِّ عامٍ، وفي اليومِ الذي كان ينبغي فيه أن يرجعَ من رحلته تلك تعاودها هذه اللوْثةُ، فتحِفُّ بها جارتُها، ويُعلّقْنَ الراياتِ ويتظاهرنَ أمامها بانتظار الغائب.
إنّ القارئَ يكتشفُ في نهاية القصّةِ ما كان يعرفُه الراوي منذ بدايتها، أيّ أنّ العجوزَ مجنونةٌ. ولكن الراوي لا يكتفي بأنه أخفى على قارئه جزءاً من الحقيقةِ فهو يضيف في السطر الأخير جملةً تقلب من جديد مفهومَ القارئ للقصةِ ولحبكتها رأساً على عقب. فهو يصرّح: "كانت هذه المرأةُ المسكينةُ ضرّةَ أمي!".
وبطبيعة الحال فإنّ المازني كان يعرفُ بأنّ القارئ سيؤوِّلُ الأشياء حسب مظاهرها وعلى غير حقيقة ما تُشيرُ إليه، ولقد بذل الجهدَ كلَّه لتضليلِ القارئ.
وينبغي على القارئ أن يسلكَ، على غير علمٍ منه، هذا السبيلَ الخاطئَ كي تبلُغَ الحكايةُ مأربها وكي تترك فيه أثرها. والقارئُ الحقيقيُّ الذي يخامره بعضٌ من الضجر وشيءٌ من نفاذ الصبر حين يتوهّمُ أنّه يعرفُ نهاية الرواية التي يقرؤها لابد أن تسعدَه الخاتمة التي لم يكن يتوقّعها ولابدَّ له من أن يعترفَ بجميل الراوي الذي كذب عليه طيلة فصولِ الحكاية.
إنّ القارئَ الضمنيَّ والقارئَ المُجَرّدَ والقارئَ النموذجيَّ يُظهِرون جميعهم وبجلاءٍ، وبقطع النظر عمّا يختلِفُ فيه أحدُهم عن الآخر مبدأً أساسيّاً في نظريّة الرواية هو أنَّ المُتَلقّي ينشأُ نشوءاً موضوعياً في جسدِ النصِّ نفسه. وسيّان أن يكونوا صورةً مُسبَقةً للقارئ تفترضُها الحكايةُ أو أن يكونوا أعواناً نشيطينَ يُساهمون في مجرى القصّة فإنهم يقومون جميعاً على المبدأ الذي يقول بأنّه يوجَدُ في بنيةِ كلِّ نصٍّ دورٌ يُقتَرَحُ على القارئ. وهم يُشبِهون غايةَ الشبّه صاحِبنا المَرويَّ له الخارجيَّ حتى لنكاد لا نُميّزهم عنه.

3-2-من تحليل الحكاية إلى نظريّات القراءة.

إنَّ تعدّدَ أنماط القرّاء المُحتَمَلين وتعقُّد طرق التحليل باستمرار كما رأينا فيما سبق قد نتجا عن تحوّلِ اهتمام الباحثين عن نظريّات القصّة إلى الأثر الذي تتركه القصّة.
لقد كانت النظريّات التي تعنى بالسرد ترى أنَّ غايَتها الأولى هي وصفُ الطرق السرديّة.
ولم يكن لها بالتالي أن تذهب أبعد من الجهة السرديّة. وبما أنّها كانت تعتمد منهجاً وصفيّاً لدراسة النصِّ الأدبيِّ فقد كانت تنظر إليه كما لو أنّه شيءٌ قائمٌ بحدِّ ذاته يستخدمُ بنىً وتقنيّاتٍ يمكن للتحليلِ أن يُحيطَ بها إحاطةً كاملةً.
ولكن وبقدْر ما كانت مفاهيمُ الراوي أو المَرويّ له تنتمي إلى ميدان دراسة الطرق السرديّة باعتبار أنّ الراوي والمَرويّ له يظهران بظهور النصِّ بقدر ما كان مفهوم القارئِ المُضمَر يفرِضُ على المُنّظرِ فرضاً ألاّ يكتفيّ بالوصفِ فقط.
والأمرُ أن المنظورَ يتغيّرُ تماماً إذا كانت غايتُنا هي دراسةُ عمليّة القراءة. فبدلاً من النظر إلى النظام السرديّ على أنّه بنيةٌ قائمةٌ بذاتها ومستقلّةٌ بذاتها يصبح من الواجبِ علينا أن نحلّلَه من جهةِ علاقته مع القارئ. ولا يعود من الكافي عندها أن نكتشِفَ المَرويَّ له وأن نصِفَه بل يُصبِحُ من واجبنا كذلك أن نتساءلَ كيف يتصرّفُ القارئُ حيالَ الدور الذي يقترحه عليه النصُّ الأدبيّ.
وفي الحقيقة فإن إيزير وإيكو يتطلّعان إلى ما وراء حدود النصّ حين يدرسان مفهومَ القارئ الضمنيّ أو مفهومَ القارئِ النموذجي. وليس من شكٍّ في أنَّ تحليلَهما ينصرف إلى كيف "يُجسِّدُ" القارئُ الحكايةَ أكثر من انصرافه إلى الحكايةِ ذاتها.

3-3- القضايا المُعلّقة.

تنبع الصعوبات التي استعرضناها حين درسنا مختلفَ أنماط القارئ النظريّة من أن تلك الأنماط ليست بالضبط نظريّةً تماماً ومن أنّ البرهانَ لم يقم بعدُ فاصلاً قاطعاً على حقيقةِ وجود هذه الأنماط وجوداً مستقلاً عن المُحلِّلِ يضمن سلامةَ التحليلِ وشموليّتَه.
فحين يشرعُ أمبيرتو إيكو بوصفِ ردودِ أفعالِ قارئه النموذجيِّ فإنه يصفُ في واقع الأمرِ ردودَ فعلِ أمبيرتو إيكو ذاته. وهو يقرُّ بذلك مُحرَجاً:
"إنّه ليسَ من السهل دائماً أن نفرّقَ بين التأويل النقديِّ (أيّ تأويلِ الناقدِ نفسه) وبين المُشارَكةِ المُؤوِّلةِ التي يُبرمِجُها النصُّ نفسُه والتي يضعُها في متناول جميع القرّاء. إنّ الحدودَ بين هذيْنِ النشاطيْنِ واهيةٌ تماماً. وعلينا أن نُنشِئها على قوّةِ المُشاركةِ المُؤوّلةِ وعلى بسطِ نتائجها بوضوحٍ ودقّةٍ."
وعليه فإنّ المعاييرَ التي قد تُساعِدُنا على أن نُفرّقَ بين تلقّي قارئٍ ما وتلقّي القارئِ النموذجيِّ ليست بيّنةً البتّة. ولقد استخلصَ أمبيرتو إيكو سمات القارئ النموذجي الذي اقترحه، وحسب اعترافه، بفضلِ قوّةِ مُشاركتِه المؤوِّلةِ ووضوحها ودقّتها لأقصوصةٍ كتبها الفرنسيّ ألفونس ألليه Alphonse Allais بعُنوان مأساة باريسيّة حقّاً. ولنا كلّ الحقّ بأن نشكَّ كلَّ الشكِّ بأن مُنظّراً آخرَ سيصل إلى ذات السمات وإلى ذات النتائج.
ومهما يكن الأمرُ فإنّ علينا الإقرارَ بأنّ القارئَ الذي يفترِضه النصُّ الأدبيُّ هو على الدوامِ قارئٌ وهميٌّ وأنّه ليس إلاّ فرضيّةً يُقيمُها الكاتبُ ليبنيّ حكايَته. والحقُّ أنه ليس بإمكان كاتبٍ ما حتّى ولو كان الجاحظ  أو الهمذاني أن يتوجّه كتابةً إلى قارئٍ حقيقيٍّ.
إنّ الكاتبَ يتوجّهُ على الدوام إلى قارئٍ مُحْتَمَلٍ.
هل يستطيعُ هذا القارئُ أن يُعلّمنا شيئاً عن الطريقة التي يتصرّفُ بها القارئُ الحقيقيُّ الملموسُ؟.

4- القارئُ الحقيقيُّ.

4-1- التلقّي الملموسُ.

إن قصورَ النماذجِ القائمةِ على مفهومِ المَرويّ له المُجرّدِ وعجزَها عن الإحاطةِ بعمليّةِ التلقّي قد دفعَ بكثيرٍ من الباحثينَ من أمثالِ ميشيل بيكار M...Picard إلى التخلّي عن فكرة القارئ النظري وإلى توجيه اهتمامهم إلى دراسة القارئ الحقيقيِّ ذلك الفرد المَخلوق من لحمٍ ودمٍ والذي يأخذُ بالكتاب بين يديه. وهؤلاء يعتبرون أن تلك هي الوسيلةُ الوحيدةُ التي تجعلنا نفهمُ قراءةَ النصِّ الأدبيِّ على نحو مفيد ويقولُ بيكار ناطقاً بلسان زملائه إنَّ مفهومَ القرّاء المُجرّدين كان بلا ريبٍ خطوةً علميّةً هامةً قادت البحثَ النقديَّ إلى الأمام. ولكن الإيغالَ في متاهاتِ المَرويِّ له المُجرّدةِ كالقارئِ القائم في النصِّ أو القارئ الضمنيِّ أو القارئ النموذجيّ وإلى غير ذلك من دقائقَ وتصوّراتٍ طريفة يبدو في كثيرٍ من الأحيان وكأنه هروبٌ خجولٌ من مواجهةِ حقيقةٍ شائنة. وهي، ببساطة، أنَّ للقارئِ الحقيقيِّ جسداً يعيشُ فيه ويقرأُ فيه كذلك. والقارئُ الحقيقيُّ ليس أبداً روحاً تائهةً تنفلتُ في سماواتِ الحكاية دون ما قيدٍ. إنّه إنسانٌ موجودٌ حقاً ينفعلُ بصفته هذه أمام النصِّ وأمام ما يقترحُه النصُّ من عواطفَ وأهواءٍ أو من أشكالٍ فكريّةٍ وعقائديةٍ. كيف نستطيع أن ندرسَ دراسةً مُثمِرةً رواية توفيق الحكيم عصفور من الشرق بدون أن نعملَ على اكتشاف الأساليب التي تأخذُ بعواطفِ القارئِ (وهو مخلوقٌ حيٌّ يتنّفسُ ويهتزُّ انفعالاً) فتُقحِمُهُ في عالمِ الرواية إقحاماً وتجعلُهُ مُتحفّظاً قبالةَ نوايا الكاتب؟. فالنفور الحقيقيُّ الذي يشعرُ به القارئُ حيالَ محسن، وهو نفورٌ يُبرمِجُهُ النصُّ الروائيُّ ذاته (إن كان على نحوٍ مقصودٍ أو غير مقصودٍ) هو الذي يجعلُ منه رمزاً للتسامي ولقوةِ الفكر.
كيف نستطيعُ أن نُقدّرَ حقَّ تقديرها روايةَ جرجي زيدان أسير المُتمَهدي (1892) إن أغفلنا الجانبَ العقائديّ الكامنَ فيها؟ إنَّ القارئَ الحقيقيَّ مدفوعٌ على نحوٍ خفيٍّ، وراءَ سلسلةِ المغامراتِ الحربية التي تغصُّ بها الرواية ووراء قصّةِ الغرام الذي يربِطُ بطليْها، إلى قبولِ مشروعِ مصر الخديويّة وبريطانيا العظمى في احتلال السودان وبسطِ هيمنةٍ استعماريّةٍ غريبةٍ عليه؟.
إن النظريّات السرديّة لا تكفي وحدها للإحاطةِ بكلِّ أبعاد النصِّ الأدبيِّ. وليس يكفي أن نُبرهِنَ على فعّاليّةِ البنيةِ القصصيّة. بل لابدَّ لنا بعد ذلك أن نستخلِصَ تأثيرَها على القارئِ المحسوس ويبقى الأمرُ طبعاً أن نعرفَ كيف نُحيطُ بهذا القارئ تحليلاً.

4-2- أطرافُ القارئ

يقترح ميشيل بيكار في كتابه القراءة كلعبة أن نُميّزَ في كلِّ قارئٍ ثلاثةَ أطرافٍ أساسيّةٍ أو ثلاث جهات. فهناك الطرفُ القارئُ الذي يُمسِكُ بالكتابِ أثناء المطالعةِ ويحافظُ على العلاقةِ مع الوسط المحيطِ به. وهناك الطرفُ اللاواعي في القارئ والذي ينفعِلُ ببنى النصِّ الوهميّةِ ويستجيبُ إلى مؤثراته. وهناك أخيراً الطرفُ الناقِدُ الذي يصرِفُ عنايَته إلى إدراك تعقُّدِ النصِّ. وعليه فإن القراءة في نظام بيكار تبدو على أنّها علاقةٌ مُعقّدةٌ بين ثلاثة مستويات متباينةٍ في علاقتها مع النصِّ.
وليكن المقطعُ التالي الذي نقتبِسُه من سيرة ابن هشام:
"قال ابن إسحاق: وقد كان ثابت بن قيسٍ بن الشمّاس، كما ذكر لي ابن شهاب الزهريّ، أتى الزبير بن باطا القُرَظيّ، وكان يُكنّى أبا عبد الرحمن، وكان الزبير قد منَّ على ثابت بن قيس بن شمّاس في الجاهليّةِ. ذكر لي بعضُ ولَدِ الزبير أنه قد منَّ عليه يوم بُعاث- أخذه فجزَّ ناصيَته ثمَّ خلّى سبيلَه- فجاءه ثابتٌ، وهو شيخٌ كبيرٌ فقال: .."(2)
ولدينا في هذا المقطعِ شاهدٌ على الانتقالِ الدائمِ بين المستوياتِ المذكورة. فهذا النمطُ من الكتابةِ الذي يُقدّمُ للقارئِ خبراً يُلحِقُهُ مباشرةً بخبَرٍ آخر يشرحُه أو يعدّل منه يعيقُ استكانةَ القارئِ للنصِّ ويعبِّئُ كلَّ طاقته. فإن كانت الجملةُ الأولى تنتمي إلى الوهم السرديِّ وتُبشِّرُ بمتعةِ الحكاية- كان الزبير قد منَّ..- أي أنها تقصدُ طرفَ القارئِ الذي يستجيبُ لنداء السردِ، وإلى الطرفِ الذي يأخذُ بالكتابِ بين يديْه، فإنّ تعليقَ ابن إسحاق- ذكر لي بعضَ ولد الزبير أنّه قد منَّ عليه يوم بُعاث- يتوجّهُ إلى طرفِ القارئ الناقدِ الذي يمسكُ بمجموعِ النصِّ المُعقّدِ وبعلاقته مع التاريخ.
ويمكن أن نضرِبَ على ذلك مثالاً آخر نأخذه من موسم الهجرة إلى الشمال وخصوصاً الفصل السابع منها. ففي هذا المقطع يختلطُ خطابان ويتداخلان فيُؤثّرُ كلٌّ منهما في الآخر ويُظهِران بجلاء العلاقةَ بين أطراف القارئِ الثلاثة. فالهذيانُ المحمومُ تحتَ أشعّةِ الشمسِ الحارقةِ والصورُ المُلوَّنةُ لنساءٍ عارياتٍ والجملُ المُتألّمةُ على لسان نُسوةٍ تُعذّبهُنَّ الشهوةُ والإثمُ يبدو ذلك كلُّه تعبيراً عن الرعبِ الذي يجتاحُ الراوي بسبب جنونِ مصطفى سعيد وهولِ الرغبات التي أثارها. ومن شأن هذا كلّه إقلاق طرف القارئ اللا واعي.
ولكن لقاء السيّارة الحكوميّة المُعطّلة وبها خمسةُ عساكر ثم قصّة المرأة التي قتلت زوجها توقفُ مؤقّتاً سيلَ الهذيان الذي يجتاحَ طرفَ القارئ الذي يُمسكُ بالكتاب ويعيه تمامَ الوعي طرفُه الناقدُ الذي يُدركُ أنَّ هذا المشهدَ إرهاصٌ بجريمة القتلِ الطقسيّةِ التي سترتكبُها حسنة بنت محمود أرملةُ مصطفى سعيد.
ولكن تقسيم بيكار هذا، وعلى أهميّته، يُثيرُ بعض التحفّظات. فإن كان وجودُ الطرفِ الأوّلِ الماديّ أمراً لا ريب فيه فإن مفهومَه لا يُساعدُنا كثيراً على تحليلِ النصِّ بالمعنى الدقيق. ويصعُبُ علينا كذلك أن نقبلَ بمبدأ سلبيّة الطرفِ الثاني. ونرى أن هناكَ موقفاً مُتوسّطاً بين المُشاركةِ النقديّةِ في النصّ والاستجابة السلبيّة لنداءاته. ومن جهةٍ أخرى إن كان ما يُميّزُ الطرفَ الثالثَ في القارئ هو أنه يتّخذُ بينه وبين النصِّ مسافةً تساعده على النقدِ فإنه من الضروريّ ولا شكَّ أن نُنشئَ درجاتٍ في تلك المسافة.

4-3- أنموذجٌ يُستَكمَلُ؟

إن نظام بيكار الذي عرضناه فيما سبق ناشئٌ بطبيعةِ الحال عن طريقته العامة في تحليلِ النصِّ الأدبيِّ، أي الإحاطة بعمليّة القراءة بوصفها لعبة ذات قواعد. ولكن إن طرحنا بعيداً عنّا هذه الطريقة في التحليل ورغِبنا أن نحيطَ إحاطةً نظريّةً بمختلف الجهات القارئةِ لوجب علينا أن نعيد النظر في هذا النموذج. فنُهمل مفهومَ الطرفِ الأوّلِ القارئ ونهذّبُ تعريفَ الطرفِ الناقد.
لقد سبقَ لنا ورأينا أن طرفَ القارئ الناقد لا يغيبُ عنه أبداً أن النصَّ هو بناءٌ يُبنى قبل أن يكونَ أيّ شيءٍ آخر. وكلُّ بناءٍ يتطلّبُ مهندساً. وعليه فإنَّ عينَ هذا القارئِ مشدودةٌ على الدوام إلى طيفِ الكاتبِ الذي يقودُه من خلال علاقاته مع النصِّ. ويُمكن أن يُنظَرَ إلى الكاتب بطريقتيْن.
إنّ المؤلّفَ هو الجهةُ السرديّةُ التي أنشأت العملَ الأدبيَّ وهو كذلك الجهةُ المُثقفةُ الواعيةُ التي تسعى من خلال النصِّ أن تنقلَ رسالةً ما.
وعليه فإننا نستطيعُ أن نعتبرَ أن الطرفَ القارئ ذو وجهيْنِ أو ذو شخصيّتيْن. فهو قارئٌ يلهو حين يحاولُ أن يُخمّنَ سياسةَ النصِّ السرديّة وهو قارئٌ مؤوّلٌ حين يسعى إلى فكِّ رموز الغاية التي يقصدها النصّ بأكمله.
إن قارئَ موسم الهجرة إلى الشمال يتسلّى مع الراوي الأول ويحاولُ أن يتنبّأَ بخاتمة مصطفى سعيد وبمصير الراوي النكرة بينما يسعى إلى تحليل الرواية لاستخلاص ما تهدف إليه. إن سؤال كيف ستنتهي مغامرة مصطفى سعيد يرافقه باستمرار سؤالٌ آخر هو ماذا يُريدُ أن يقولَ لنا الطيب صالح من خلال سيرة بطله؟.
وإذا كان طرفُ المشاطرةِ النقديّةِ في القارئ يُدركُ النصَّ من خلال صلتِه بمؤلّفه فإنّ الطرفَ اللاواعي الذي يستجيبُ لبنيةِ النصِّ الروائيّةِ يستوعبُ عالم الرواية بذاته ولذاته. وهذا الطرفُ من القارئ هو الذي يقعُ في حبائلِ الوهم السرديّ الذي يجعله يحسب، خلال فترة القراءة، أنّ عالم النصّ عالمٌ حقيقيٌ وموجودٌ حقاً. ولأنه ينسى طبيعة النصّ اللغويّة فإنه يُصدّقُ ما يُقالُ له فيه. وهذا الطرفُ هو الذي يجعلنا نتعاطفُ مع مصطفى سعيد ونثور لنهاية حسنة بنت محمود ونحسُّ صقيع لندن يدبُّ في أعطافنا.
وينبغي علينا كذلك أن نضيفَ تأثير بعض دوافعنا الغريزية اللاواعية. فثمّة مستوى من القراءة يجدُ القارئ في بعض مشاهده صدىً أو انعكاساً لأحلامه الخفيّة ولهلوسته التخيّليّة. وعندها تنشُطُ علاقةُ القارئ مع ذاته وعلاقته مع لا وعيه. وليس انجذابُ القارئ لمشاهد العنفِ أو لوصف العلاقات الغراميّة إلاّ تنشيطاً آنيّاً لغرائزَ فيه أسكنتها التربيةُ والكبتُ. وكذلك النزوعُ إلى السلطة ومراكز القوّة التي تحرّك بعض الشخصيّات الروائيّة فإنها ترضي الرغبات الدفينة في القارئ.

4-4- الأسُس النفسيّة

إنّ القوْلَ بأنّ كلّ قارئٍ يحملُ في تكوينه كقارئٍ أطرافاً أساسيّةً مُعيّنةً ثم العملَ على استخلاص تلك الأطراف وتحديد معالمها يفترضان أن جميع القراء يمتلكون عدداً من الثوابت النفسيّة المشتركة. وفي حقيقة الأمر فإنّه ليس من المُمكن أن نأمل بأن نحيط بعمليّة القراءة وأن نفهمَ إن غابت عنّا هذه المُسلّمة. إنّ كلّ إنسان يحملُ بالإضافة إلى صفاته الشخصيّة الفريدة الفذّة عدداً من الصفات العامّة الموجودة عند كلّ الآخرين.
إنّ هذه الطريقة بتحليل نشاط القراءة تنسجم مع معطيات التحليل النفسيّ. ونحن نعرف مثلاً أن بعض مفاهيم سيجموند فرويد  تفترض بالفعل وجود وقائع نفسيّة ثابتة تجتاز التاريخ ويعرّف التحليلُ النفسيّ مثلا الاستيهامات الأولى بأنها البنى التخيّليّة الوهمية النموذجيّة (الحياة في بطن الأم والمشهد الأصليّ والخصاء والإغراء) التي تُنظّمُ الحياة الاستيهاميّة لكلّ منا مهما كانت تجربتُه الشخصية.
وإذ نعرّفُ القارئ الحقيقيّ على أنّه موضوعٌ بيولوجيّ وبسيكولوجيّ معاً فإننا نضعُ في متناول يدنا الأدوات اللازمة التي نحتاجها لتحليل تجربة القراءة تحليلاً دقيقاً. وإذا كان مفهومُ القارئ المُجرد يساعدُنا على فهم كيف يعملُ ظاهرُ النصّ فإنّ النظر إلى القارئ الحقيقيّ على أنه حامل لردود أفعال نفسيّة ولنزوات يشتركُ بها الناسُ جميعاً يساعدنا على فهم كيف يعملُ باطنُ النصّ.
وبعد أن درسنا المروي له الخارجيّ، أي بعد أن رأينا كيف يتخيّلُ النصّ قارئه، علينا أن نحلّل الآن كي يتصرف القارئُ أمام الدور الذي يقترحه عليه النصّ.
نحنّ نعرفُ مثلاً أنّ المرويّ لـه في رواية دوستويفسكي  Dostoieveski الجريمة والعقاب يشهد أحداثَ الرواية من خلال زاوية راسكولنيكوف  القاتل. فهو يطّلع بذلك على خبايا نفسه ويدركُ مقدار عذابه.
ما هي نتائجُ هذه المعرفة الحميميةِ بذات القاتل على القارئ الحقيقيّ؟ ما هي نتائجُ هذا التفهّم لفعل آثمٍ يُدرَكُ من داخله ويُبرّرُ ولكنه يُرفضُ بلا ريبٍ في الحياة الواقعيّة؟
إنّ تحليل القارئ على أنّه موضوعٌ بيولوجيّ وبسيكولوجيّ يمكن له أن يُجيبَ على هذا النمطِ من التساؤلات.
¡ هوامش الفصل الثانيّ
(1) الجاحظ ، كتاب البخلاء تحقيق طه الحاجريّ، القاهرة، دار المعارف بمصر، سلسلة ذخائر العرب، بدون تاريخ، صفحة 13.
(2) ابن إسحاق السيرة النبويّة برواية ابن هشام، تحقيق مصطفى السقّا وإبراهيم الإبياريّ وعبد الحفيظ شلبي، القاهرة، شركة ومطبعة مصطفى الحلبيّ، الطبعة الثانية 1955 الجزء الثاني، صفحة 242.